الأسماء الواردة في المقال على سبيل الاستعارة ولا تمت للواقع بصلة.
أودع (بوعلي) قسرا في دار رعاية المسنين من قبل أبنائه بدعوى عدم قدرتهم على رعايته! ليقضي فيها ما تبقى من حياته حتى أنهى عامه التسعين وانتقل إلى جوار ربه بعد أن أمضى عقودا ثلاثة من الزمن، لم يكن بوعلي نزيلا عاديا، ولم يستشعر العاملون في دار المسنين يوما بمعاناته المحبوسة بداخله، ولا بعلقم الاضطهاد والقهر الذي كان يقطعه ويذبحه كل دقيقة، استسلم لقرار عياله وأمهم بعد أن (رموه) في الدار حتى يستعيد الله أمانته، فآمن بالله وبما قسمه له من سوء خاتمة وعقوق مغلظ من الذين خرجوا يوما من صلبه، فكانوا بئس الذرية والتربية وأرذل أنواع البشرية! كان النزيل بوعلي بمنزلة الأب الروحي لجميع العاملين في الدار، لدماثة خلقه، وحسن تعامله، هادي الطباع، قليل الكلام، رقيق المشاعر، دائم الابتسامة، لا يتدخل فيما لا يعنيه، شديد الحرص على تأدية الصلوات الخمس في أوقاتها، فائق النظافة والقيافة، شديد الحرص على رعاية أصدقائه من النزلاء، كان يستثمر كل دقيقة في التجول عليهم، يقوم بترتيب فراش هذا ويعدل (مخدة) ذاك خاصة النزلاء غير القادرين على تنظيف أنفسهم (Unable to take care of himself) من بقايا أكل وغيره، اعتاد تنظيف غرفته بنفسه، كان حبيبا، خدوما للجميع، أحب الكل وأحبوه، فاستعارهم عن أسرته بديلا.
من الأمور الغريبة، قدرته على الذهاب بنفسه إلى أسواق المباركية لشراء حاجياته دون الاعتماد على الآخرين أو على أي من خدمات (سبع نجوم) التي تقدمها دار المسنين له ولزملائه، تعرفت عليه، وتعمقت علاقتي به، وحملت على عاتقي مهمة ألصقها بي عنوة عندما كلفني بتوصيله إلى سوق المباركية لشراء حاجاته، فكان رحمه الله ينتظرني عند موقف سيارات الدار كلما احتاج تزويد ثلاجته بطعام يشتهيه، أو بملابس داخلية يطلبها رغم توافر غيرها في الدار، أدركت ما به من ألم وحققت له ما يتمنى من أمل، شغف (الطلعة) للسوق كان تنفيسا عن (ضيقة خلق) يعتريه، واستعادة لذكريات جميلة كانت قبل صدور الحكم الجائر من أبنائه العاقين بطرده وشطبه من سجل عائلة قام بتكوينها يوما وتسيد سدتها فأصبح عمود خيمتها التي استظلوا بظلالها.
من المواقف الإنسانية للنزيل بوعلي اكتشفتها عندما استدعاني الأخصائي طالبا مني التدخل بإقناعه بترك المسؤول عن تغذية نزيل يدعى بوحمد للقيام بواجبه في إطعامه وجبة الغداء باعتباره من النزلاء الذين يحتاجون لرعاية فائقة، لأن بوعلي اعتاد (رحمه الله) عند كل وجبة منع كل العاملين في الدار من تأدية واجبهم، بل ومقاومتهم عنوة لتركه للقيام بنفسه بإطعام النزيل بوحمد الذي كان ينتظر أيدي بوعلي الحانية لإطعامه بشكل أبهر الجميع، فضلا عن قيامه بتنظيف فم النزيل بوحمد بعد الانتهاء من وجبته وبتنظيف فراشة، فانضممت إلى الذين فشلوا في إقناعه بترك المعنيين القيام بواجبهم.
رحم الله النزيل بوعلي الذي رفض يوما نصيحة مسؤولي الدار بإنزال صورة لعلم الكويت وأخرى لسمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد المعلقتين على جدار غرفته خوفا من تعرضه للأذى من قبل الجيش العراقي وبقيت الصورتان معلقتين على جدار غرفته ورحل هو عنا.
فكانت الذاكرة التي مكنتني من تخزين تلك المواقف المؤثرة لتطل ذكرى بوعلي ذات الثلاثين عاما.