عرفته إنسانا بسيطا يعمل معنا في الوزارة، قدم للموظفين صورا جميلة ومعاني ذات قيم مهنية غاية في الروعة، بلغ من صفة الأمانة ما بلغ، ومن طيبة النفس مثالا، والتجرد من الذات ما تعلمه من قسوة الحياة، ومن الالتزام الديني ما فرضته شريعتنا السمحة، ومن الخلق في التعامل مع الناس ما تعلمه من سيد البشرية (صلى الله عليه وسلم) ومن عادات أهل الكويت نوادرها، توغل فينا بأدب، وتعمق بعاداتنا بشغف، لبس الدشداشة فور عشقه للكويت والكويتيين، تذوق الزبيدي والحاشي فأكلها (بالمعبوچ) وبمذاق أهل الكويت مزاجا، قادته جرؤته لارتداء الغترة والعقال حتى زجت به أفكاره لمحاولات جريئة بتقليد كل ماهو كويتي، ليذكره لسانه يوما بأن لغة الضاد عصية عليه فنطقها عرجاء، فأضحت مزحة بيننا تسبق كل صلاة ظهر عندما يستأذن: انا يروح (أتوزا) أي سأذهب للوضوء، تركناه مستمرا في أداء عمله وانقطعت أخباره عنا. بعد سنوات أربع اتصل هاتفيا: (بابا أنا مياه الحق.. أنا يسوي تلفون علشان سلام، أنا ستين سنة.. إقامة خلاص.. ماكو أنا أقعد داخل كويت) أزعجني هذا الاتصال وعن مغادرته الكويت نهائيا، فعلاقتي به لم تكن عابرة لتجاوزها حدود أسوار الوزارة وما حولها، استذكرت حديثه عن الألم والأمل الذي يعيشه بعض الباحثين عن الرزق الحلال أمثاله بعد أن تغربوا عن أوطانهم وأسرهم. فآلام هذا المسكين كغيره، لكننا ندرك نحن الذين زاملناه أعواما تجاوزت العشرين مدى الحلم الكبير الذي كان يراوده، فكان الأمل بتكوين أسرة وتربية أبناء صالحين ينشأون على دين الإسلام ويترعرعون - حسبما كان يحدثنا به - عن أطباع أهلنا في الكويت فقد كان من أشد المعجبين بثقافتنا وعاداتنا وقيمنا خاصة فيما يتعلق بأعمال الخير، وبأعمال أهل الكويت في رعاية الأيتام ومساعدتهم ومنهم أيتام بلاده، وفي بناء العديد من قرى الفقراء وإنقاذ المحتاجين ومساعدة المرضى القابعين في مستنقعات الفقر المدقع، فكان له ما أراد، نفرح عندما يفرح ونتألم بآلامه ونتفاعل معها رغما عن كل ظروف العمل لفداحة ومرارة الألم، منها عند وفاة والده في السنوات الأولى لمعرفتنا به، ثم والدته رحمهما الله، وتمر بنا السنون وتكبر تلك الآمال كما هي الآلام. كبر أبناؤه الذكور وأمن لهم حياة كريمة وزوجهم تماما كما فعل لبناته، فكثف جهوده بالبحث عن عمل بعد نهاية دوامه بالوزارة، ليستطيع الإيفاء بوعوده لهم ولأحفاده.
كانت أكثر الذكريات ألما وإزعاجا له ولنا عندما يجتر قسوة الحياة والظروف بتكرار مقولته المشهورة (بابا موت ماما موت آنا ما يشوف هو، أولاد صغير اليوم هو كبير ما يعرف أنا) يقلب مواجعه بتحويل (سوالفنا) نكدا وكدرا.
كان المعنى جليا بوصفه لحياة قاسية يعيشها ويعيشها آلاف مثله بين ظهرانينا. لتنهال لنا الدروس والعبر، تماما كما انهالت علينا مؤشرات نتائج قراراتنا في أبعاد من بلغوا الستين عاما لنقل لهم (مع السلامة الكويت تتعذركم) لكن يبقى نهر العطاء الكويتي ينهال على الخليقة من كل حدب وصوب، فلابد من بزوغ شمس يوم يعاد فيه النظر بقرار استبعاد (بو ستين) يقول الشاعر يوسف الشطي ما معناه (الكويت ليست كويتا وكفى، بل هي بيت ومأوى ونسب، وتسامت على كل الصعاب، فلامست البهاء، وتخطت بأفعالها العظيمة، فعانقت الشهب.