«شياب» بعضهم يصلي الفجر بالمسجد ونموذج آخر يصلون في بيوتهم، يلتقي النموذجان في مقاهي اسواق الديرة قبل بزوغ الشمس، تجمعهم (استكانة) شاي مخدر على الفحم، ونبض حديثهم ذو شجون، قاسمه المشترك اجترار الماضي والتصفح في سجلاته، تسيطر عليهم ثقافة الخوف من الآتي والأجل المسمى، منهم من لا يكترث بالموت لارتفاع أرصدته الدنيوية وآخرون يموتون حسرة على ما فات، فأرصدتهم الدنيوية خاوية كعقولهم، وأفئدتهم جوفاء، ومشاعرهم جافة كشواطئ هجرتها البحار.
كعادته يطوف عامل المقهى بينهم لتلبية طلبات الزبائن يستمع الى أحاديثهم وضحكاتهم، فيتلقى تارة الترحيب من شايب ذي مزاج عال، وتارة اخرى يتلقى الزجر و(زفة) من (شايب) ضاق صدره بثقل مرارة الأيام والسنين، خاصية الدعابة عادة مصدرها بوحمد ذلك الشايب الذي لايستطيع رواد المقهى الاستغناء عنه وسماع نكته وحديثه المشوق. ذات يوم وعلى غير عادته تأخر بوحمد عن الحضور فتسابق الحضور للاتصال به لمعرفة سبب تأخره، ففشل الجميع في محادثته.
ازدادوا خوفا عليه وخيم عليهم الهدوء، ينتاب الجميع القلق على بوحمد. احدهم خلسة: يتصل بصديق له يعمل في مستشفى الاميري سائلا إياه عن حالات الطورائ ودخول المستشفى ليلة البارحة فلم يكن بينهم بوحمد!
وسط ذلك السكون والوجوه الحبيسة الخائفة على مصير صديق ملأ المجلس بالمرح والسعادة العفوية التي صنفها البعض بما تسمى في يومنا هذا بـ (الطاقة الإيجابية) بل ان شخصيته تلك اكتسبت القدرة على تفريغ الموجات السالبة الغائرة في نفوس الضحايا لتفضي لبعضهم بالاحباط والفشل! ليخلصهم منها بوحمد وامثاله، لذلك تجد المعتل من الشياب يقترب من بوحمد اكثر فأكثر للاستمتاع بحديثه ومن ثم الإحساس بالراحة النفسية ليضخ في نفوسهم مشاعر إيجابية يفسرها علماء النفس بجرعة إيجابية. في تلك الأوقات العصيبة وطول انتظار على مصير بوحمد يصرخ احدهم «كاهو شوفوه هناك في اول السوق قادم إلينا الحمد لله ما فيه شي» يصل بوحمد وسط ترحيب الجميع به «الحمد لله على السلامة بوحمد عسى ما شر شفيك اليوم أشغلتنا عليك».
يجلس بوحمد على غير عادته وقد ارتدى ثوب الحزن، يطول صمته.. يقترب الاول: (عسى ما شر بوحمد؟ ام حمد تعبانة وكنت سهران البارحة عند رأسها ولم أتمكن من النوم حتى تحسنت قليلا ومازالت على غير ما يرام... ماكو الا العافية.
الثاني موجها الكلام لأبوحمد: ما تشوف شر ام حمد، الكل يتفاعل معه ويدعون الله العلي القدير ان يشافي ام حمد، الثالث: قلبت المواجع يا بوحمد لقد ذكرتني بوفاة زوجتي رحمها الله لقد كانت لي كل شي بحياتي تشاجرنا يوما على مقولة أرددها لها دائما «عسى يومي قبل يومچ» فلا تقبل بهذه العبارة فتعيدها لي «عسى ان يكون انا يومي قبل يومك» وهكذا حتى قضى الله أمرا كان مفعولا ورجعت الأمانة لخالقها، تحققت أمنيتها وبقيت وحيدا. نعم تلك هي العلاقة الزوجية لآبائنا وأمهاتنا. فأي رباط مقدس أسمى.. رباط مقدس يرتبط به عيالنا اليوم؟ ام الرباط المقدس الذي ربط امهاتنا بآبائنا بالأمس؟