حدثني قائلا: أشتهي أحيانا قيادتها لتعيدني لأيام الشباب والزمن الجميل، لم تدخل تلك السيارة ضمن فئة «الأنتيك» ولا يطلق عليها صفة «السكراب» تصنيعها من ثمانينيات القرن الماضي، تغطيها ألوان أقرب إلى الذهبي المعتق، تنفر من شكلها عند النظرة الأولى، يزعجك صوت محركها ذي 420 حصانا، يجزم كل من يقترب منها بهوية قائدها الذي لا يمكن أن يكون إلا أحد الإخوة الآسيويين الكادحين الذي أقسم يوما بامتلاك سيارة في وطن النهار، جوانب جسدها لا تخلو من أضرار بليغة هنا وخفيفة أخرى هناك، في مؤخرتها صدى غير ملامح لونها، محرك السرعة (الغير) وكذا أجهزة الإضاءة والتبريد تعملان بشكل ممتاز، لا تعرف هذه السيارة كراجات الشويخ ولا محال التصليح الأخرى الا ما ندر، أنا زبون غير محبب لديهم، أقودها أحيانا بسرعة تجعلني متسيد الطريق والوحيدة الذي أسير على أكتافه حينما يكون ذلك مسموحا، لكن... يصمت قليلا. ثم أردف قائلا: تصدق يا أخي.. اكتشفت أن هناك معايير غريبة عند الآخرين لتقييم الناس في شوارعنا! سألته: (شلون)؟ قال: عندما أقود سيارتي الحديثة فأنا أسير في شوارعنا وكأنني طاووس متهاد مختال بجماله نافش ريشه المتألق ومتباه بتميزه على جوانب الطرقات، سائقو المركبات يحترمونني وأحظى بمكانة غير عادية بينهم، بل إن العديد من التجاوزات التي أرتكبها أثناء قيادتي لسيارتي الحديثة بقصد أو دون قصد تمر بلا أي رد فعل او احتجاج منهم، وكثير من الأحيان أخجل من نفسي عندما أتمادى في تجاوزهم وأتحدى أولوياتهم وأحقيتهم في إفساح الطريق، يقف كثير منهم لي مجبرا لا مخيرا حال مشاهدة قدوم سيارتي او اي سيارة فخمة اخرى ليفسح الطريق!! أما وأنا في هذه السيارة القديمة فإن الأمر مختلف تماما، كم هي مأساة تصنيف البشر وتقسيمهم حتى في الشوارع، أوجز لك بعض مشاهداتي وما استنتجته من حقائق أليمة أتمنى ألا أكون محقا بوصفها وهي:
1- غالبية قائدي المركبات يتسابقون ويتهافتون على تلقيني درسا قاسيا لو طبقت ذات الأسلوب الذي أتبعه في قيادتي لسيارتي الحديثة، وعليه يجب ألا أنسى أنني أقود سيارتي القديمة وما يتطلبه ذلك من واقع الالتزام بواجباتي وأنها هي التي تحدد مكانتي الاجتماعية و.. «من أكون»!! والتقيد بالمفاهيم «الشوارعية» التي تحدد درجة أهميتك بين الآخرين (من أنت)؟ وإلا فتجرع كل أصناف الهوان والذل والاعتداءات بمختلف أنواعها من قبل بعض قائدي المركبات الأخرى لاعتقادهم أنك عامل متطفل لديه سيارة أو من ذوي المهن المتدنية!
2- الخنوع والخضوع التام أثناء قيادة السيارة القديمة ومنح أولويات الطريق للجميع وتقديم جميع التنازلات عن كامل حقوقك!
3- أن تدرك استحالة منحك أيا من حقوق التمتع بتجاوز الآخرين أو افساح المجال لك بالسير أمامهم أو منحك حق السير في الحارة المحددة لك وفق قانون الطريق.
4- «انس» يوما أن تقوم بتخطي الآخرين مسرعا لأن أيا منهم لن يمنحك شرف الفوز عليه!
5 - إذا تناسيت وأعلنت نفسك بطلا مغوارا وتبادلت مع الآخرين «الخز» فإن ذلك سيفضي بك في غرفة طوارئ لأقرب مستشفى لترميم الكدمات والجروح التي رسمها جحافله الطرقات. قمة الاحتقار والذل جنيته في نهاية جولتي المهينة أثناء قيادة سيارتي القديمة!