«طلعنا» من منطقة القادسية مع بداية ثمانينيات القرن الماضي بعد أن عشت فيها أياما جميلة مع بداية تكوين مرحلة الطفولة، وما يميزها من بعدها عن كل المؤثرات التي تقلب كيان الإنسان «وتخليه» يعيش بحالة عدم تكيف مع نفسه أو مع أقرانه وما يجري من حوله بسبب المتغيرات السريعة وما يواجهه من جهل لنتائجها التي تعتمد على مدى إدراك واستيعاب هذه المرحلة والتي تتفاوت بين إنسان واع وآخر غير واع، ومنهم أصحاب الشهادات العليا باعتبار أن الواعي مختلف كثيرا عن المتعلم وهناك فروق كثيرة فليس كل متعلم واعيا وليس شرطا أن يكون الواعي متعلما.
المهم أن حياة الطفولة جميلة بكل ما فيها. شقاوتنا وهواياتنا في مرحلة المراهقة مؤذية لأهلنا وللجيران، لكن أيا من الجيران لم يقدم شكوى عند المخفر أو حتى إظهار أي امتعاض من أفعالنا، فتجد مربي طيور الحمام (المطيرچي) يستوطن السطوح، يعتلي نصف جسده «طوفة» السطح لكنه يغض النظر عن «التبحلق» في حرمة جيرانه! والآخر مرب للأغنام لا يخلو منزله من «شبرة» صغيرة في حوش صغير معزول في إحدى زوايا البيت لكن رائحتهم غير مزعجة! حتى عاشق تربية البقر تجده يحرص على تخصيص موقع في أحد أركان بيته، أما عشاق تربية الدجاج فهذه الهواية تكاد يجمع على حبها عدد كبير من الأسر فلا ينزعج أحد من صياح الديوك!
أما والدي، رحمه الله، فقد قام بتخصيص جزء من بيتنا في منطقة القادسية كمخزن لبضاعته التي يستوردها من الهند والصين وإنجلترا وغيرها من البلدان التي يتعامل مع شراكاتها المصدرة آنذاك، ويصادف أحيانا كثيرة أن «تهجم» عليه شحنات من البضاعة الواردة في وقت متقارب فتضيق مساحة المخزن ولا تتسع لحجم كميتها فيضطر لتركها خارج المنزل فتكون عرضة لتقلبات الطقس دون وجود أدنى خوف من سرقتها على الرغم من تنامي سرقات المنازل وانتشار الحرامية بين المناطق! وعند مناقشته ووالدتي، رحمهما الله، عن هذا الإهمال وعدم الخوف من تعرض بضاعته للسرقة يرد علينا بعبارة «المال الحلال له رب يحفظه».
في ديواننا الأسبوعي، دخل شاب وسيم «مجسم» في العقد الخامس من عمره، جلس بالقرب من أحد أبناء عمومتي بعد أن ألقى التحية على الحضور ولقي من الرد بأحسن منها، وبدأ في تبادل الحديث الجانبي حاله كحال من يدخل دواوين الكويت، فالصمت وعدم التفاعل مع الحضور والإنصات غير المبرر صفات غير محببة.
عيناه وهو يتكلم لم تنقطعا عن التصويب نحوي وكأنه يتحدث عني بل وبقليل من التمادي أصبح يشير بأصبعه علي، تساءلت في نفسي: ماذا يدور بخلد هذا الضيف؟
فجأة انفجر ضاحكا هو وابن عمي الذي وجه عينيه هو الآخر نحوي ليخبرني على مسامع الحضور قائلا: «تدري شنو يقول عنك هذا الوسيم»؟ قلت: خير إن شاء الله! يكمل ابن عمي: يقول عندما كنتم في القادسية كان وأخوه الصغير يقومان بسرقة ما في الصناديق و«الكراتين» من البضاعة التي يضعها والدك (عمي) خارج مخزنه! يضحك الاثنان وتتعالى قهقهتهما لدرجة استرعت انتباه كل من كان جالسا في الديوانية.
يكمل عنه الشاب الوسيم موجها حديثه للحضور: في إحدى المرات سرقنا، «يضحك.. إنها أيام لا تنسى» ثلاجة ماء (مطارة) صغيرة وهربت مسرعا للبيت متجها لوالدتي رحمها الله، وأنا فرح بالغنيمة فأدركت والدتي على الفور قائلة «سرقتها من بيت العمار؟»، فنهرتني على الفور وطلبت مني إعادتها من حيث أتيت بها، فقمت بإعادتها وبخطوات احترافية (يضحك) قمت بترتيب الكرتون حتى لا يشعر والدك بسرقة بضاعته! ثم وجه الشاب الوسيم حديثه لي قائلا: أرجو «السموحة» كانت شقاوة أطفال.
تذكرت حينها قول الوالد، رحمه الله: «المال الحلال له رب يحميه».