يقول: بعد انقضاء ليلة حزينة، واستقبال يوم ليس كسابقه، واشتد بنا ألم فراقها، واعتصر الفؤاد على قرب لحظات وداعها.
فجسدها مسجى هناك على أحد أرفف ثلاجة الموتى ينتظرنا، فإكرام الميت دفنه، تقترب عقارب الساعة نحو التاسعة صباحا وجموع المشيعين يتوافدون من كل مكان لتشييع جنازة الوالدة رحمها الله.
بدأت سيارات حمل الجثامين تقترب إلى مكان الصلاة عليهم وتقف في المكان المخصص لها، تفتح أبوابها الخلفية ويتسابق الأقارب على حمل جثامين ذويهم لتأدية صلاة الميت عليهم.
كانوا ثمانية جثامين حظيت كسابقها بآخر خدمة تقدم لهم في الدنيا، صلى الحضور عليهم، وينهي الإمام الصلاة وقوفا ليندفع الجميع هجوما على الجثامين كسبا للأجور مصداقا لقول معلم البشرية صلى الله عليه وسلم: «من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراطان»، تحمل الجثمانين على أكتاف الرجال والسير بها نحو مثواها الأخير.
يكمل الموكب المهيب السير بصمت غريب على إيقاع التكبير والتهليل، يقترب الجمع نحو المكان الموعود، يصرخ مسؤولو القبور «من هنا ياشباب» يترنح الموكب ثم يستقيم اتجاها للقبور.
يكمل: تصدق يا أخي في هذه اللحظة جاءتني قوة وعزيمة (من حيث لا أدري) نسيت كل شيء، أسرعت بجثمان والدتي لقبرها وكأننا (نبي ندفنها وخلاص.. ليش مسرعين؟ ما أدري) يصمت قليلا.. يبكي بحرقة ثم يكمل، (آخ.. إكرام الميت دفنه) انتهينا من دفن أغلى ما لنا في هذه الدنيا وباشر المشيعون مغادرة القبور إلى الصالة المخصصة لتقديم العزاء. وقفت واخوة لي نستقبل الأعداد الكبيرة التي حضرت لتعزيتنا.
يضيف: أبدى المعزون تعاطفا كبيرا معنا وبمشاركة وجدانية قلما تجدها في تعاملاتنا الأخرى، وتفاعلهم هذا أصبح بمنزلة البلسم الشافي الهاني الذي خفف حزني، شاركوني حملا ثقيلا، وبدا علينا الارتياح النفسي، إنها لحظات لا تنسى، أشعرتنا وكأننا لسنا الوحيدين المفجوعين بوفاة عزيز. انتهى العزاء وغادرنا المقبرة وعدنا لبيوتنا وعاد الحزن والألم بأقوى مما كان لأسباب يعرفها الجميع.
الأماكن والذكريات وغرفة المرحومة ومطبخها، و... و.... كل شيء في البيت أحيا فينا الألم والحزن.
استقبلنا يومنا الثاني من العزاء واستعددنا لاستقبال المعزين الذين بدأوا بالتوافد لديوان الأسرة ويعود معهم استقرار النفس وطمأنينة الفؤاد (عظم الله أجرك.. شد حيلك يا خوي.. ثم أحسن الله عزاكم..) كلمات كبيرة بمعانيها عظيمة بسحرها المطمئن لا يدركها إلا المؤمنون بالله، كلام بالودّ اتصف وبالتعاطف البعيد عن الابتذال والمجاملات والنفاق زان وبرز! تصدق: هناك من يقول إن مشاركة البعض للعزاء عندنا نفاق اجتماعي ومصالح! أقول حتى لو كذلك، فقد خففت الحزن ومسحت الدموع وطبطبت على أكتافنا المثقلة بالألم، تعاطف نحتاجه ولا نشحذه من الآخرين.
قاطعته: وإذا انتهى العزاء وغادركم المعزون ألا تشعر حينها بعودة الحزن مضاعفا؟ قال، لا يا أخي تلقيت جرعات معنوية ونفسية ممن شاركونا على مدار الأيام الثلاثة، عززت تلك الجرعات في نفوسنا الإيمان بالله، فالمشاركة لم تقتصر على استقبال المعزين فقط، بل هناك تفاعلات أخرى من الجيران تمثلت بتكفلهم بتقديم وجبات الغداء والعشاء على مدار الأيام الثلاثة، فكان السباق محموم بينهم، وكل جار قدم لنا ما خفف علينا فقد والدتنا، كان سلوكا إنسانيا قيما ليس له جزاء إلا الأجر من الله.
قاطعته قائلا: ألا تلاحظ معي يا أخي أن عادة العزاء بالأيام الثلاثة بدأت تتلاشى وبدأت بعض الأسر بالاكتفاء بالعزاء في المقبرة فقط!!؟. قال: نعم لاحظت بس (ما أدري ليش)!