هل من السهولة أن تكون متدينا؟ ما مدى يسر القراءة لديك لفهم ذلك الدين ومعرفة أركانه؟ هل يستحق هذا الدين أن يبذل الوقت والجهد المضني لتعلمه؟ ولماذا؟
آية صوفيا جامع عاصمة الشمال التركي طرابزون في أعلى الجبل المطل على البحر الأسود جامع قديم جدا يختلف كثيرا عما رأيت من مساجد، فهو يحتوى على آثار رومانية وبقايا أعمدة رخامية متناثرة وجداريات بصور مسيحية محاط بصخور طاعنة بالقدم ومنارة خارجية إسلامية عتيقة وقبة دائرية مثلمة أطرافها.. تناقض مربك لمكان واحد، تزامنت زيارتي لهذا الجامع عقب صلاة الظهر ولم ألحق بصفوف الجماعة لتأخري قليلا، صليت تحية المسجد.. وأنهيت فرضي، وفي سكون الاستغفار يتهامس رجال عن يميني بكلمات عربية ركيكة تحاول الوصول إلى الإتقان لفظا عبر مخارج الحروف المثقلة بتاريخ اللغة التركية في فم ذلك الشاب العازم على إخراجها بلسان عربي مبين.. فعل مضارع ام فعل ماض؟! نقاش طويل وصعوبة بالغة لتعلم اللغة العربية من ذلك الشاب الوسيم الذي يعتمر قبعة عادية ويجلس بكل حشمة ووقار أمام شيخه الذي يعلمه ويصحح له كل كلمة وكل مخرج للحروف، انتبه لي ذلك الشيخ وسلمت عليه وأومأ لي بأن أقترب إليه، سلمت عليه وقبلت رأسه بكل رحابة صدر.
فهو شيخ مسنّ وتبدو عليه علامات السنين المتتالية بتجاعيدها العميقة وبلغته العربية الواضحة والسليمة وعبر صوت خافت أخذ يستنطقني وكان أول الأسئلة: هل أنت من الحجاز؟ وأخذ يوضح (من مكة أو المدينة) قلت له: لا أنا من الكويت عرف بلادي وحياها وقال أوصيك ومن وراءك بتقوى الله، ان الدنيا فانية وبالية وعليك بالسنّة النبوية لبسا وتعاملا.. أنصتّ له وكأنني أسمع هذه النصائح لأول مرة في حياتي، وبعد حديث شيق ووصوله الى النهايات سألني سؤال غريب وغير متوقع: هل تلبس الكفن؟ استهجنت السؤال من ذلك الشيخ الوقور: أي كفن ولم ألبس الكفن؟ وكيف؟ ابتسم وقال لي: كل مسلم عليه لبس الكفن وفي كل وقت كرمزية للجهاد والاستعداد للموت والارتباط بالآخرة، وها أنا ألبس كفني دائما وهي العمامة البيضاء التي على رأسي أو ملابس بيضاء فضفاضة يعمل منها الكفن عند الحاجة تحت ملابسي، وأخذ يوضح بصورة مبسطة فكرته، كم كان الحديث غريبا وغير عادي، فلم اسمع أحدا من المشايخ الذين نعرف يتكلم عن مفهوم الجهاد والاستعداد له ولو رمزيا بتلك الروح وتأصيل الفكرة ذهنيا وعمليا في زمان أصبحت كلمة الجهاد مقترنة بالإرهاب وامتطتها كل الفرق نحرا وتكفيرا لكل الفرق بخلط أوراق يتيه معها العقل اللبيب، سألته: وكيف ألبس الكفن ولا جهاد معلنا والناس فرق وما هي الـ... قاطعني بكلمات بسيطة قائلا: أنا أفهم ما تقول وهو غير مهم، والمهم منا الآن أن يرث الجيل الذي يلينا ويعي ماهية هذه الكلمة، وبعد هذا اللقاء الغريب والحديث العابر غير المرتب له، استأذنته بالذهاب وأذن لي وبكلمات ودعاء جميل تفارقنا.
ومنذ خروجي من ذلك الجامع وأنا أجول في أفلاك ما قال وما هي دواعي الحكاية، ولماذا يصر هذا الشيخ على تأصيل هذا المفهوم، وكيف كان حال هذه الأمة العظيمة وكيف أضحى؟ وأنا لا ألومه أبدا فهو من ولد قبل ما يقارب الثمانين حولا وتدرج به العمر من العزة إلى الذلة ورأى كل مكتسبات الأمة الإسلامية تذوب وتذهب ريحها رويدا رويدا ابتداء في بلاده التي نزعت الإسلام عنها في منتصف القرن الماضي إلى احتلال ثاني القبلتين إلى الاستعمار إلى قمع الإسلام واتهامه في كل ميدان بأبشع التهم إلى أن وصل به العمر عتيا ولم ترد إحدى مكارم الإسلام وعزته، فاعتقد شيخنا والله أعلم أن مصير هذه الأمة يبنى على ماضيها القوي والذي كان الجهاد أساس الحكم والمنعة فيه وإن كان لا وجود للجهاد الآن فمن المهم ألا ينقطع ذكره بيننا على الأقل فهو أحد ركائز الدين شاء من شاء وأبى من أبى.
[email protected]