الانشداد إلى الماضي مرض مفتعل يستبد بالبعض من الشبان وصغار السن أو الذين لم يعيشوا ذلك الماضي المنشدين إليه والمولولين على رحيله.
هم يتأسون على زمن لم يعيشوه ولم يعرفوا تفاصيله المريرة ولم يذوقوا ويلاته ومشقته وتعبه وكده وعرقه وخوفه.
لم يلسعهم برد شتائه ولم يسلخ جلودهم حر قيظه، لم تكوهم شمس كأنها قطعة من نار لا رحمة فيها ولا عاصم منها من ظل ولا سقف.
ولم تصطك عظامهم من صقيع الشتاء الذي يتجول بين الأضلاع ويتربع فيها حتى باتت له مقرا وسكنا.
لم يسكبوا على أجسادهم من الماء «الخريج» ولم «يزعبوه» من «الجليب» ولم تشقق أياديهم حبال الدلو.
لم يبيتوا ليالي الصيف الرطبة اللزجة على الأسطح فوق فرش مبللة كأن السماء سكبت عليها جل مائها.
لم يسيروا حفاة يتعثرون بصخرة ناتئة تصيب أصابعهم بـ«لجمة» عز مداويها.
لم يسيروا إلى مدارسهم دروبا طويلة والبرد يقصقص عظامهم يبحثون عن الدفء فلا يجدونه وما حولهم سوى الفراغ والريح تصرصر في آذانهم.
أو في صيف ذي حر يذيب الحديد وشمس تطاردهم وتقصي عنهم كل ظل.
هم لم يعيشوا ذلك ولم يعرفوه ولكنهم يتأسون عليه ويتمنون استمراره وهم لم يعرفوه.
لم يتقاسموا الرغيف ربعا ربعا أو نصفا نصفا، ولم تدر بينهم الأطباق الفارغة الملحوسة لحسا، يأتون السفرة خماصا ويقومون منها خماصا.
لم يعرفوا الشح والقلة في المأكل والملبس والمشرب والملهى والملعب.
لم«يتديرفوا» في «ديرفة» ولم «يتقلبوا» في «قليلبة» في عيد جاد عليهم بثوب يتيم، وربما شح ولم يجد.
لم يفرحوا بـ«آنة» سخت بها يد أب أو أم أو عم أو خال، فطاروا بها إلى دكان «الفريج» يتباهون على أترابهم ممن خلت أياديهم من «آنة» أو «متليك».
لم يعيشوا يوما طويلا طويلا يبدأ ولا ينتهي لا يملأه سوى فراغ يملأه فراغ، ولم يبيتوا على الأرض على «دوشك» رق سمكا حتى كادت أجسادهم تلاصق الأرض.
لم يأكلوا «الملحوس» فتتقطع أمعاؤهم وتصفر وجوههم وتغدو أجسادهم لهيبا أحمر حتى يأتي الشفاء من السماء.
ذلك هو الماضي الذي يترحمون عليه ويتمنون عودته.
[email protected]