من الطبيعي عند حدوث الجرائم، لاسيما ما كان منها في مواقع النزاع، وما تعددت فيها وجهات النظر، أن يتم تشكيل لجان التحقيق الدولية.
وعادة ما يستخدم مصطلحا «لجنة التحقيق الدولية» و«بعثة تقصي الحقائق الدولية» في سياق الأمم المتحدة للتعبير عن طائفة من هيئات مؤقتة ذات طابع غير قضائي تنشئها إما هيئة حكومية دولية أو الأمين العام أو المفوض السامي لحقوق الإنسان، وتكون مكلفة بالتحقيق في ادعاءات انتهاك حقوق الإنسان الدولية أو القانون الدولي الإنساني أو القانون الجنائي الدولي، وبتقديم توصيات باتخاذ إجراءات تصحيحية بالاستناد الى استنتاجاتها الواقعية والقانونية.
إن تشكيل لجان التحقيق الدولية وعملها شأن سياسي بامتياز، لأن مثل هذه اللجان لا تشكل إلا إذا كانت القضية موضع التحقيق على قدر من الخطورة ومتعلقة بشخوص من السياسيين، كما هو الحال مع اللجان التي شكلت للتحقيق في اغتيال رئيسة وزراء باكستان بوتو ورئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، لكنها في المقابل تبدو ضعيفة فيما يخص الشخوص من غير السياسيين، وهذا هو المتوقع في حال تشكيل لجنة دولية، للتحقيق في اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة.
والمشاهد من تجارب سابقة أن لجان التحقيق الدولية قد باتت أداة لإماتة الجريمة وتغييب الحقيقة لصالح الجاني، بخضوعها للابتزاز السياسي وطول فترة العمل وقلة التعاون من الأطراف المعنية وغياب المعلومات الدقيقة.
ولنأخذ هنا مثالا ناصعا، وهو مخيم جنين، وقد ذكرته في كتابي «الصراع العربي الإسرائيلي في استطلاعات الرأي الأميركية» الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات«صفحة 456-457، فبعد إعلان «إسرائيل» انسحابها من المخيم إثر اجتياحه في 21 أبريل 2002، وتكشف حجم الدمار والجرائم التي خلفها الاحتلال، قامت السلطة الفلسطينية بمطالبة مجلس الأمن بضرورة إصدار قرار فوري بإرسال قوات دولية، وتشكيل لجنة تحقيق في الاعتداءات التي ارتكبت. وجرت نقاشات في مجلس الأمن، وافق بعدها المجلس المؤلف من 15 عضوا ـ وبالإجماع ـ على إرسال بعثة تقصي للحقائق، وليس بعثة تحقيق، وذلك بفعل الضغط الأميركي، وكان الغرض منها الوقوف على حقيقة ما في جنين، وتقديم تقارير عن جرائم حرب ضد المدنيين.وبعد أن وافقت «إسرائيل» مبدئيا على اللجنة، تراجعت في 23 أبريل 2002 عن موافقتها، مدعية أن تشكيلة اللجنة جاءت مخالفة لما اتفق عليه، وأنها سياسية أكثر منها عسكرية كما ينبغي أن تكون، ومحتجة أن اختيار أعضاء الفريق كان دون تنسيق مسبق معها. وهددت «إسرائيل» بتعطيل مهمة الأمم المتحدة بالقرار، وأبلغتها بسحب موافقتها على إيفاد البعثة إلا إذا ضمت خبراء عسكريين وخبراء في مكافحة الإرهاب، ذلك أن شارون ووزير الدفاع ـ آنداك ـ اعتبرا بعض من اختيروا لعضوية فريق الأمم المتحدة منحازين ضد إسرائيل، وبالتالي زعمت إسرائيل أن الأمم المتحدة لم تلب شروطها حول عمل اللجنة، خلافا لما قاله الأمين العام للأمم المتحدة وقتها «كوفي أنان» بأن المنظمة الدولية حاولت تلبية كل الشروط الإسرائيلية، والتي كانت تقضي بمنع اللجنة من استدعاء الشهود، ومنعها من وضع استنتاجات، والاكتفاء بوصف ما ترى في المخيم الذي دمرت جميع مبانيه تقريبا بعد أن حاصرته قوات الاحتلال نحو عشرة أيام. وبعد شد وجذب بين إسرائيل والأمم المتحدة، انتهى مصير اللجنة بحلها من قبل الأمين العام للأمم المتحدة في 2 مايو 2002!ويبدو أننا نسير في اتجاه تكرار الذي حدث فيما يخص التحقيق في حادثة اغتيال شيرين أبو عاقلة، وكيف لنا أن نقتنع أن إسرائيل التي لم تتردد في مهاجمة جثمان الفقيدة والاعتداء على المشيعين بوحشية أدانها العالم ستتعاون لإيقاع القصاص العادل بالقتلة؟!