لطالما عد من أخلاقيات البحث العلمي أن يكون الباحث منصفا وموضوعيا، يستند إلى الأدلة والبراهين العلمية، وأن يتصف بالتروي وعدم التسرع في إصدار الأحكام، وأن يكون ذا شخصية متواضعة تتقبل آراء الآخرين وانتقاداتهم، وتحرص على توطيد علاقة معهم تسودها الثقة والصدق والاحترام المتبادل.
وأذكر هنا، في واحد من المشاريع البحثية الدولية، عكست نتائجها وجهات نظر متباينة بين الخبير والمراجع الإقليمي، حول موضوع الضرائب في الكويت ومحاولة الإجابة عن سؤال: «ما مدى ملاءمة النظام الضريبي لتقديم التبرعات الخيرية وللمنظمات الخيرية لتسلم هذه التبرعات؟»، فقد طرح بداية من المقيم الإقليمي أنه لا يوجد أي حافز ضريبي للأفراد للتبرع، لأنهم لا يدفعون أصلا ضريبة على الدخل، والمنظمات الخيرية لا تتلقى أي ضرائب على الخدمات التي تقدمها، وكان رأي المراجع تخفيض الدرجة، ولكن بعد نقاش توصلنا إلى رأي أكثر دقة بحذف نتيجة السؤال من النتيجة الإجمالية لأنه لا ينطبق أو منح درجة متوسطة، وأتيحت الفرصة لخبير الدولة وفريق البحث الاستشاري لإعادة تقييم الدرجات Adjust Scores وتقديم معلومات إضافية، وانتهى الأمر بزيادة درجة الكويت ومنحها 3.4، مع رسالة جميلة من أحد أعضاء فريق البحث الاستشاري.
مثل هذه التجربة والنقاش والتواصل يدل على فضيلة التواضع والتراجع والاعتراف بين أهل العلم والباحثين، وكيف أن الحقيقة بنت الحوار وأن رأيين أفضل من واحد كما يقولون «Two heads better than one»، وكيف أن سعة الصدر في عرض وجهات النظر واختيار أسلوب المناقشة المناسب لها سيفضي إلى عدة فوائد، من أبرزها نقل المعرفة والخبرة والخروج بأحكام مدروسة قدر المستطاع!
إن العقل البشري بطبيعته محدود، وهو معرض لارتكاب الأخطاء سواء في مجال البحث العلمي، أو غيره من مناحي الحياة، ومن المألوف أن يميل الناس إلى تبرير آرائهم، لكن التشبث بوجهة النظر، دون إفساح الصدر لتقبل الرأي الآخر، وعدم التحلي بفضيلة التواضع الفكري، سينعكس بعواقب وخيمة على البحث العلمي وسيفقده دقته وحياديته مصداقيته.
هناك العديد من الدراسات التي ثبت عدم صحتها بعد إعادة اختبارها، ويذكر هنا أن إحدى المبادرات البحثية قامت بإعادة إجراء 100 دراسة وتجربة في مجال علم النفس لتجد أن نحو 60% منها أعطت استنتاجات مختلفة عن تلك التي خرجت بها الدراسات الأصلية، وربما لو أتيحت الفرصة لمزيد من التدقيق والنقاش حولها منذ البداية لما استمر تقبلها على علاتها قبل إعادة اختبارها.
وتشجيعا للتحلي بفضيلة التواضع الفكري، تبنت ثلة من الباحثين في 2016 مشروعا بعنوان «مشروع فقدان الثقة» بهدف تشجيع المؤسسات العلمية والباحثين في علوم النفس والاجتماع على الاعتراف بالأخطاء المنهجية التي ارتكبوها في دراساتهم السابقة، والتي تجعلهم يفقدون الثقة في مدى صحة استنتاجاتها.