بدأ اللاعب المصري المعروف محمد صلاح، مسيرته الرياضية في مصر مع ظروف مادية صعبة دون أن يحبطه شيء، وهاجر ليحترف اللعب مع أندية أوروبية، وصولا إلى ليفربول الإنجليزي، ليصبح أغلى لاعب عربي وأفريقي في التاريخ، وثاني أغلى لاعب في تاريخ النادي!
لم يكن انضمام صلاح إلى ليفربول وليد مصادفة، فإدارة النادي تعتمد على فريق تحليل البيانات، والذي يرأسه منذ عام 2012 يان جراهام الدكتور في الفيزياء، مع مجموعة من المتخصصين، والذين أدركوا أن هناك تفاصيل كثيرة تؤثر على التسجيل في الملعب، فعملوا على معرفتها واستخدامها بشكل يميز ليفربول عن منافسيه، وقام فريق التحليل ببناء قاعدة بيانات لنحو 10 آلاف لاعب يوصي من خلالها بمن يتم ضمهم وكيفية استخدامهم!
عند انتقال صلاح إلى اللعب مع تشلسي، بدت فرصته في النجاح في إنجلترا ضئيلة، لكن تحليل البيانات استنتج أن أداء محمد صلاح مع تشلسي يدل على «جودته»، وأن ضمه مع فيرمينو البرازيلي سيحدث نقلة في الفريق، فتم ضم صلاح مقابل 42 مليون يورو!
قصة هذا اللاعب تجسد ظاهرة واضحة في واقعنا العربي، فهناك الكثير من المبدعين والموهوبين، وفي شتى القطاعات، ممن كانوا مغمورين في بلدانهم، وبقيت طاقاتهم ومواهبهم مهما كانت درجتها دون صقل أو رعاية، فلما وجدوا البيئة الجاذبة المناسبة تجلى إبداعهم وتألقت موهبتهم، وانطلقت طاقاتهم بصورة لم تكن لتحدث لو بقوا في بلدانهم الأصلية يعملون بمفردهم!
أدركت الدول المتقدمة العلاقة الوثيقة بين استقطاب الكفاءات والمواهب، ونهضة وتنمية الدولة، فعملت على توفير الحوافز والظروف الملائمة، لاستيعاب المبدعين دون اعتبار لجنسية أو عرق أو دين، وإدماجهم في المجتمع، فأصبحت بؤرة جذب للمهاجرين من العمالة الماهرة، من الدول النامية ومن بينها الدول العربية، والتي تسهم، حسب دراسة بعنوان «اقتصادات الشرق الأوسط في أوقات التحول»، بما نسبته 31% من العمالة الماهرة في الغرب، تشمل 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من العلماء، ممن وصل كثير منهم إلى مراكز مرموقة في مؤسساتهم!
ولعل الولايات المتحدة تعتبر المثال الأبرز في هذا السياق، فقد سعى هذا البلد، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، إلى قيادة العالم علميا وتكنولوجيا، فاعتمد قوانين منفتحة للهجرة، ووفر أقصى الدعم المادي والمعنوي للبحث العلمي، بتوفير مناخ ملائم، وميزانيات كبيرة، من الحكومة الأميركية والمؤسسات الخاصة، ومرافق ومختبرات متطورة، وفرص عمل ملائمة ومجزية، إلى جانب تسهيل اكتساب الجنسية الأميركية، بما فتح أمام المبدعين آفاقا واسعة، وجعلهم أكثر عطاء، ومنحهم الحافز على الانخراط في المجتمع، الأمر الذي انعكس في نمو وتضاعف قوة الولايات المتحدة العلمية والاقتصادية والعسكرية!
أذكر في هذا السياق كيف أبدى رئيس قسم الدكتوراه في جامعة ديلاوير الأميركية حرصه على استقطاب المبدعين من طلاب الدكتوراه من مختلف أنحاء العالم، ودعمهم ماديا عن طريق المنح الدراسية التي يملك صلاحيات واسعة في تقريرها، ولذا لا نعجب حينما كنا نرى فصولا تعج في معظمها بالطلبة المهاجرين!
في مقابل ذلك، لم تستثمر كثير من الدول النامية، ومن بينها دولنا العربية، ما تملكه هي ذاتها من طاقات بشرية، أو تعمل على استقطاب الكفاءات من الوافدين إليها، فكانت خسارتها مضاعفة، بتعطيل هذه الطاقات في بلدانها، ثم بجذب الدول المتقدمة لها وقطفها ثمرة يانعة، وكم من محمد صلاح بقي مغمورا في بلداننا ينتظر الفرصة السانحة للهجرة واللعب في غير بلاده!
[email protected]