يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) «فصلت: 10»، لنتأمل الآية الكريمة حيث بدأت بدقة صنيع الله ونظامه بأن جعل في الأرض رواسي (الجبال) من فوقها لتكفل لها التوازن وعجائب أخرى، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، حيث يقول علماء التفسير إن أربعة أيام لا يقصد بها أيام البشر وإنما أربع مراحل، والأقوات قدرت فيها بأربع مراحل، وعنوان مقالنا اليوم أن أقوات الأرض بجملتها رباعية المصدر التي تعد مقومات لتلك الأقوات والتي لا يمكن استمراريتها ونشوئها إلا بتلك المقومات، والتي هي سواء للسائلين أي لجميع البشر، والتي تعد سر تركيبة الحياة ونظمها في الاستمرارية، ولقوله: () لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) «غافر: 57»، وعليه فإن تلك الأقوات هي كما يلي:
أولا: المادة السوداء: وقد ذكر الظلام في مواضع متعددة في القرآن الكريم وفي هذا الخصوص الشرح يطول، وإنما أكتفي بالسرد المتواضع، أن تلك المادة هي الحاضنة للكون وحماية ما به من الارتطام ببعضه البعض لقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) «الأنبياء: 33»، حيث يسود الكون الظلام بنسبة 96% من مادة الكون كله، وتبقى 4% للمادة المرئية الملموسة، وللظلام أسرار عظيمة واحدة منها تكمن في كل شيء ينشأ في الظلام، فالكون محاط بظلمات شديدة لقوله: «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر، 14-15) وقوله سبحانه وتعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) «يس: 37»، إلى خلق الإنسان في ظلمات ثلاث داخل أحشاء أمه لقوله: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث) «الزمر:6»، أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وتلك الظلمات التي تحيط به لتؤمّن له الغذاء والأكسجين من ناحية وحمايته من الكدمات أو الصدمات من ناحية أخرى، كما أن الظلام يؤثر على الإنسان في عملية البناء حيث إن هناك عمليات في الجسم لا تتم إلا وقت الخلود للنوم في غرفة مظلمة وهذا ما أثبته العلم الحديث والسبق القرآني أشار إليه لقوله عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (الروم:23)، وقوله: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص:72-73)، وننتقل في هذا الخصوص لنشأة النبات حيث لا يحدث إلا في بيئة مظلمة تحت التربة حتى تؤمّن له الرطوبة والبيئة التي تمكن البذرة من الإفلاق والإنبات، كما أن المعادن وغيرها من الأقوات التي تنتجها الأرض تنشأ بدايتها في الظلام، كما هو الحال للحيوانات والمحيطات وغيرها ويستمر البناء والغذاء والعطاء في حياة كل شيء ما بين النهار والليل.
إن للمادة المظلمة شأنا كبيرا ورحمة عظيمة من لدن خبير عليم، فهي تؤثر علينا وعلى طاقتنا وعلى من حولنا وتؤمّن لنا الاستقلالية والخصوصية لكل فرد من أفراد هذا الكون العظيم وداعم لنشأة الأقوات المختلفة في أشكالها وأنواعها والتي لا تعد ولا تحصى على الأرض، وهناك الكثير من الأسرار لتلك المادة التي لم يصل لها العلم الحديث والتي ما زالت تحت المجهر، ومهما زاد علم الإنسان يظل عاجزا أمام علم الخالق لقوله:(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) صدق الله العظيم وإلى لقاء قريب عزيزي القارئ لاستكمال مقومات أقوات الأرض رباعية المصدر.
family_science@