«لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام» بهذه العبارة استهل الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) إعلانه، وأكد أن «كرامة الإنسان تقتضي بالضرورة نشر الثقافة وتنشئة الناس جميعا على أهداف العدالة والحرية والسلام، فإن ذلك واجب مقدس يتحتم على جميع الأمم الاضطلاع به بروح التعاضد والاهتمام المتبادل»، وقد صدر هذا الميثاق عقب الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار بشري ومادي، والهدف منه هو تجنيب البشرية ويلات الحروب التي تطول الجميع بلا استثناء، ولذلك فإن هذه العبارة البليغة الحكيمة التي استهل بها الميثاق التأسيسي لليونيسكو إعلانه تؤكد أن الدواء موجود في موطن الداء وهو العقل وذلك في حالة خضوعه لسلطان الضمير الإنساني اليقظ، وأن العقول القادرة على التخطيط والتنفيذ لهذه الحروب الكارثية قادرة أيضا على صنع السلام ونشر ثقافة المحبة والتسامح وتقبل اختلاف بعضنا البعض من أجل العيش معا في سلام ووئام.
لذلك، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها رقم 172 بتاريخ 8 ديسمبر 2017 قرارها رقم 130/72 بأن يخصص يوم 16 مايو من كل عام للاحتفال بـ «اليوم الدولي للعيش معا في سلام»، وذلك لكي يتذكر العالم أجمع ما تخلفه الحروب من دمار شامل في كافة المجالات، وأن التنوع العرقي والجنسي والديني واللغوي يجب أن يكون في إطار الاحترام المتبادل والتكامل والتعاون لا أن يكون خارج إطار الضمير الإنساني الحي والفطرة السوية المتناغمة مع القيم الأخلاقية الرفيعة.
في ذكرى هذا اليوم العالمي يجب على حكومات دول العالم الرشيدة أن تنشط وعي مجتمعاتها بأن التنوع والاختلاف العرقي والجنسي والديني واللغوي هو واقع الحياة ومن سنن الخالق سبحانه وتعالى، وأن الأسرة هي اللبنة الأولى في البناء الأخلاقي للإنسان منذ طفولته وأن الإنسان هو ابن بيئته، فإن صلحت هذه البيئة استقام هذا البنيان الأخلاقي، وإن فسدت اعوج هذا البنيان وشذ عن الاستقامة المنشودة.
الحقيقة أننا إذا أردنا العيش معا في سلام يجب أن نعلم أن الاستقامة مسؤولية فردية أولا تبدأ من الأسرة ثم المدرسة ثم جهود الحكومة في توعية الشباب وتوجيههم لتفريغ طاقاتهم في فعاليات إيجابية تعود بالنفع عليهم وعلى مجتمعهم، وعدم تركهم لوساوس شياطين الإنس من دعاة التطرف القبلي والطائفي، لكي نعيش معا في سلام يجب القضاء على الفساد في كل المجالات وخاصة نهب المال العام والمحسوبية ونشر ثقافة الكراهية على أسس قبلية وطائفية وترك مقدرات الوطن ومكتسباته رهينة لتصفية الحسابات والانتصار لأوهام النفس بدلا من جهاد النفس للحفاظ على مكتسبات وطن عظيمة نسعى ليكون في أفضل صورة ولكي نسلمه لأبنائنا خاليا من شوائب النرجسية والانتهازية وكل ما يفسد علينا حياتنا.
في اليوم الدولي للعيش معا في سلام يجب أن نعلم أن القوانين والمواثيق الدولية التي تحترم حقوق الإنسان في حياة كريمة إن لم يتم تفعيلها بقوة سياسيا وإعلاميا وتعليميا وثقافيا وأخلاقيا فإنها لن تساوي الحبر الذي كتبت به وستظل سطورا في دفاتر النسيان، خاصة أن العالم في ظل هذا الصراع والاستقطاب الحاد بين الدول في أشد الاحتياج للتذكير بأننا نعيش في عالم واحد وإلى مصير واحد ولا سبيل للنجاة إلا بأن يستيقظ الضمير الإنساني لكي يعلو صوت العدالة الإنسانية في محراب الأمن والسلام الدوليين.
نسأل الله العلي العظيم أن يجنبنا جميعا الفتن وويلات الحروب وأن يرزقنا الأمن والطمأنينة والعيش معا في سلام ووئام.