يحدث ان يعيش المرء فترات طويلة من حياته يقدس أمر ما، أو يصدقه، أو يؤمن به، حتى يكتشف بعد عمر، ان المقدس مدنس، وأن الشعار مزيف، وان القصة التي صدقها اكذوبة رخيصة ما كان ينبغي أن يصدقها. وأوضح مثال على ما أقول حق (حرية الرأي والتعبير) الذي قدسه الجميع بعد ان تم ربطه بحقوق الانسان حسب المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تشير صراحة الى هذا الحق الوهمي المزعوم وتكفل (حرية نقل الافكار إلى الاخرين)!
***
كان ذلك منطقيا وضروريا في عصر الميديا التقليدية، وقت كانت الميديا صناعة ثقيلة ليس من السهل اعتلاء منصاتها للتعبير عن الرأي. فكانت تتطلب من صاحب الرأي ثقلا اجتماعيا أو سياسيا أو فكريا أو اقتصاديا يتناسب والميديا الثقيلة التي كانت تشرع ابوابها للساسة والعسكر والعلماء والناشطين والمعلمين والمثقفين فيدلون بدلوهم ويضيفون إلى الافكار المتداولة في الأذهان افكارا جديدة. لهذا حرص الاعلان العالمي لحقوق الانسان على ضمان (حرية الرأي والتعبير) كي لا تقهر أو تحبس أو تموت الأفكار الجديدة.
***
كان ذلك قبل انتشار الميديا الجديدة التي قلبت الطاولة على البشر فمكنت الجميع من تلك الحريات المزعومة حين عمدت على نقل المطابع الضخمة ومحطات الاذاعة والتلفزيون الكبيرة الى داخل أجهزة الموبايل. فأصبح الجميع قادرا على التعبير وإبداء الآراء، بمن فيهم المجانين ومرضى النفوس والجهلاء والمساطيل، وأصبح بإمكان جاهل لم يقرأ سطرا واحدا في حياته ان يعلق على رأي لعالم نحرير أمضى عمره يجمع المعارف. لهذا أمسى البشر اليوم بحاجة الى إعلان عالمي جديد لحقوق الإنسان يحذف ذلك الحق المزعوم.
www.salahsayer.com
salah_sayer@