هناك موجة شعبوية معاصرة تغزو الآن البلدان الغربية وتلقي بظلالها على بقية العالم.
هذه الشعبوية لا يمكن ربطها بناخبين معينين، أو بملامح اجتماعية - نفسية محددة، أو ببعض «الأنماط السياسية».
كما لا يمكننا أن نعزوها لإيديولوجية محددة بوضوح مثل الاشتراكية، الليبرالية أو الليبرالية الجديدة.
لكن الشعبوية تتمظهر من منطلق داخلي معروف وقابل للتحديد: فالشعبويون ليسوا بالضرورة معادين فقط لـ «النخب» - أي الخبراء والشخصيات العامة الذين يساعدون من حولهم على التوغل في المسؤوليات الثقيلة التي تواكب الحكم الذاتي، مع أنهم أساسا مناهضون للتعددية، لأن ادعاءهم الثابت أنهم فقط من يمثلون الشعب الحقيقي.
خلال مؤتمر في لشبونة مؤخرا، أثار شون روزنبيرغ، الأستاذ في جامعة يو سي ايرفين الأميركية، جمهوره بتحد لافتراض أساسي حول أميركا والغرب. وكانت نظريته ان الديموقراطية اليوم تلتهم نفسها، ولن تدوم طويلا.
وبقدر ما قد يرغب منتقدو الرئيس ترامب الليبراليون في وضع علل أميركا أمام بابه، يقول روزنبيرغ ان الرئيس ليس سبب سقوط الديموقراطية- حتى لو كانت حملته الشعبوية الناجحة المناهضة للمهاجرين أحد أعراض تراجع الديموقراطية- «فمن يلام هم نحن»؟ على حد قوله، «لأننا الشعب».
ولا ريب في أن الديموقراطية عمل مستمر وشاق، وبقدر ما يتم تهميش «النخب» المجتمعية بشكل متزايد، كذلك أثبتت فئات الشعب أنها غير مجهزة معرفيا وعاطفيا لاجتراح ديموقراطية حسنه الأداء.
ونتيجة لذلك، انهارت المركزية وتحول الملايين من الناخبين المحبطين والحائرين بسبب يأسهم، إلى قوائم الشعبويين اليمينيين.
في الديمقراطيات الراسخة مثل الولايات المتحدة، ستستمر الحوكمة الديموقراطية في التراجع الفاضح، حيث تفشل في نهاية المطاف على يد الشعبويين الذين يدعون انهم يتميزون بمركز وسطي بين اليسار واليمين يعتبرونه الفيصل بين الخطأ والصواب.
النصف الأخير من القرن العشرين كان العصر الذهبي للديمقراطية. ففي سنة 1945، ووفقا لإحدى الدراسات الاستقصائية، لم تكن هناك سوى 12 ديموقراطية في العالم بأسره، لكنه بحلول نهاية القرن كان هناك 87، وبعد ذلك حدث الانقلاب الكبير، ففي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، توقف التحول إلى الديموقراطية بصورة مفاجئة ومشؤومة، وانعكس اتجاهه بشكل تدريجي.
لقد استولى السياسيون اليمينيون الشعبويون على السلطة، أو هددوا بالاستيلاء عليها، في پولندا والمجر وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة.
وكما لاحظ روزنبيرغ، «إذا اعتمدنا بعض المقاييس، فإن الحصة الشعبوية اليمينية من التصويت الشعبوي في أوروبا عموما قد تضاعفت أكثر من ثلاثة أضعاف من 4% في 1998 إلى حوالي 13% في 2018».
وفي ألمانيا، ازداد التصويت الشعبوي اليميني حتى بعد نهاية الكساد الكبير، وبعد ان تراجع تدفق المهاجرين الذين دخلوا البلاد.
ما سبب هذا التحول هو ان الديموقراطية والتمثيل هما في الواقع شيئان مختلفان.
فالتمثيل ليس في حد ذاته ممارسة ديموقراطية، ولا تشكل تحركات الشعبويين بأي حال من الأحوال بوادر معادية لمبدأ التمثيل.
وطالما هم في المعارضة، فإنهم يكررون الشيء القديم الذي تمارسه النخب الشريرة، بل قل النخب الفاسدة.
زد على ذلك أن أي نقد لتصرفات الساسة السيئين يتحول تلقائيا إلى نقد مباشر للمؤسسات الديموقراطية نفسها.
وعليه فالديمقراطية، كما قدمنا، عمل شاق يستدعي الكثير من أولئك الذين ينخرطون فيه، فهو يتطلب أن يحترم الناس ذوي الآراء المختلفة عن آرائهم، بل أولئك الذين لا يبدون مثلهم.
وهي تستلزم أن ينقي المواطنون مقادير كبيرة من المعلومات لفرز جيدها من السيئ، والصحيح من الزائف، مع الوافر من التفكير والانضباط والمنطق.
اليوم، وبفضل وسائل الإعلام الاجتماعية والتكنولوجيات الجديدة، يمكن لأي شخص لديه إمكانية الوصول إلى الإنترنت نشر مدونه الخاص وحشد الاهتمام لقضيته- حتى لو كانت متجذرة في مؤامرة أو مستندة إلى ادعاء كاذب.
فالناس يستقون الآن أخبارهم من وسائل الإعلام الاجتماعية بدلا من الصحف المتداولة أو شبكات الأخبار التلفزيونية الثلاث القديمة: (ABC، CBS وNBC) حيث تزدهر الأخبار المصطنعة، وهو المكان الذي يستمتع فيه الرئيس ترامب تكرارا.
وفي حين ان الديموقراطية تستلزم العديد من المتطلبات، تكتفي الشعبوية بمطلب واحد فقط: الولاء، الذي يستدعي الاستسلام للرؤية القومية الجماهيرية.
ولن تكون هذه حتى الآن، أو في المستقبل المنظور، لحظة مناسبة للتفاؤل.
فما يحدث في جميع أنحاء العالم يشير إلى أن اليمين المتطرف مستمر في المسيرة، وعندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأميركية، قد تكون المشكلة أكبر من الرجل الجدلي المقيم في البيت الأبيض، وستظل الديموقراطية تحت التهديد بغض النظر عمن يمسك بعنان السلطة.
[email protected]