هل ثمة إيجابية صنعتها «كورونا» عندما قررنا أخيرا أن نستثمر التعلم الإلكتروني وأن نتعامل مع برمجيات التعلم عن بعد، ونمارسها ناشطين ونشيطين، وقد كنا نعدها ـ أعني تلك البرمجيات ـ من «إكسسوارات» أجهزتنا الحاسوبية! فكورونا، ورغم ما جلبته من مشكلات، إلا أنها جلبت عدوى أخرى معها هي عدوى التعلم الإلكتروني عن بعد، مما أهل المواطنين إلى التعلم الذاتي الذي هو «الأساس الصحيح للتعلم»، وصرنا في عصر الحكومات الإلكترونية الحقيقية التي تخدم أناسا إلكترونيين.
ولا يقاس هذا التعميم على القطاعات المنشغلة في التعليم كلها، فثمة قليل منها استمرت فيما كانت تعمل به من منظومة التعلم الإلكتروني عن بُعد، وواجهت الحظر الذي فرضته «كورونا» بمزيد من حصص التعلم.
تتصدر «كورونا» بصفتها العدوى الفريدة من نوعها التي تأتي بمجرد التلامس مع الشخص المصاب، تتصدر قائمة الأخبار اليومية، وتتصدر معها عدوى التعلم الإلكتروني عن بعد، لأنها جاءت متزامنة مع ظهورها، واننا لم نأخذ هذه العدوى من أساليب تدريس موجودة عند غيرنا ونجرب تطبيقها عندنا، فالتعليم الإلكتروني في العالم المتحضر ألف باء أي مرحلة، ولا يختلف اثنان على أهميته، بل إن ابتكار برنامج تعليمي يعد شرطا من شروط التخرج في مراحل التعليم الإلزامية!
أما عندنا والحال يزيدنا دهشة، فلم نعد نفرق بين ما يلزمنا، وما لا يلزمنا، وبتنا نستورد ما يفيد وما لا يفيد، فأين نحن من التعلم الحقيقي ودولنا لا تعترف بالتعلم عن بعد، بل مازالت، للأسف، تكتب في شهاداتها عبارة «عن بُعد»، في إشارة إلى أن متلقي معلومات هذه الشهادة تلقاها وفق نظام التعلم عن بُعد! فأي عدوى تلك التي فرضت علينا أن نتعلم عن بُعد؟ وأي مصيبة تلك التي أدخلتنا إلى عالم التعلم التقني الإلكتروني عن بُعد؟ إنها «كورونا» ومن سواها!
تثبت التكنولوجيا اليوم أن بيدها الحل، فبها تبحث الأمم عن علاج لـ «كورونا»، وبها مازالت شركات كبرى تعمل وتتطور، وبها لم يتوقف قطار التعلم، وبها نقضي على فروقات كبيرة بين من يملك ومن لا يملك، أقصد من يملك شراء مكتبة من عشرات الآلاف من الكتب، ومن لا يملك إلا جهازا صغيرا لا يتجاوز ثمنه ثمن عشرين كتابا من تلك الآلاف العشرة، ولكنه يمكن صاحبه من قراءة ما لا يحصى من الكتب.
وأتذكر صاحبي القديم وقد كنا نتناقش في عدد المرات المسموح بها للطالب في أن يعود إلى مرجع إلكتروني، خلال كتابته لأطروحته، وكان يستهجن صاحبي القديم رجوع الطلبة في رسائلهم إلى الكتاب الإلكتروني، وينعتهم بالعجز والكسل، بل وينعت ذلك الكتاب بـ «المغشوش»!
قد يكون للكوارث فضل في أشياء، مثلما عدنا إلى التكنولوجيا والتعلم الإلكتروني، في زمن كورونا، فتتساوى حالة عدوى انتقال التعلم الإلكتروني بين الناس، بحالة انتقال عدوى فيروس كورونا بينهم، وما أحدثته «كورونا» من هلع وفزع في العالم حالة أعادت الأمور إلى نصابها: من ضرورة أخذ الحيطة في إجراءات الوقاية، والحفاظ على النظافة المستمرة، وتبني نمطا صحيا حياتيا غير متورط بما لا يسمن ولا يغني.
أما ما كان ترفا بالأمس، أصبح اليوم مجبرا، ويستجيب الإنسان إلى ما يجبر عليه في الغالب، وهذا ما حصل معنا في عودتنا إلى تكنولوجيا التعليم. وكما تحول فيروس كورونا إلى «تريند» عالمي تحولت تكنولوجيا التعليم كذلك، فالدول بين خيارين: إما إيقاف التعلم، أو التعلم عن بعد باستراتيجية إلكترونية تعارف عليه الإعلام باسم «البديلة» وهي ليست كذلك!
وما يعرف تجاوزا باسم «التعلم عن بُعد»، والاسم لا يوحي بشيء من الدونية أو حتى باضطراب في منظومة أساليب التعلم، بل على العكس، يوحي الاسم بـ «القدرة على التعلم» و«التعلم مدى الحياة»، وعلينا أن نعي أن الاستغناء عن التعلم النظامي المباشر التقليدي بات قوسين أو أدنى، وبالتالي لن تبقى حاجة لاتصال مباشر بين معلم ومتعلم في مدرسة أو ما يوازيها على مدار العصر القادم.
إن التعلم الإلكتروني ليس تعلما «بديلا» وليس منفذا في الأوقات الصعبة، بل هو حل جوهري للمتعلم الذي يكسب قوت يومه من وقته، ولا يجد وقتا للذهاب إلى مكان تعلمه، فعلينا أن نوفر بنية تحتية تكنولوجية عالمية قادرة على التكيف مع أسلوبه في الأوقات كلها وعلى مدار العام، فقد آن الأوان كي يختار الطالب بين نظامين في التعلم إما تعلم مباشر أو تعلم غير مباشر وهو ما ندعوه بالتعلم الإلكتروني دون ان نطلق عليه اسم «التعلم عن بُعد» ولا «التعلم البديل».
لقد كشفت «كورونا» حقيقة واقعنا التعلمي التكنولوجي وآن الأوان كي ننشئ لنا نظاما تعليميا إلكترونيا متطورا وليس بديلا في الأوقات الصعبة كما هو معمول به الآن، بل نبدأ به من مكانه كرديف للتعلم المباشر التقليدي، ونستخدمه كوسيلة تعليمية وأحد مصادر التعلم داخل غرفة الصف، وعلى مدار العام، ونستفيد منه كثيرا خلال العطلة الصيفية، وبالتالي علينا دمج تقنية التعلم الإلكتروني بشكل متدرج مع التعلم التقليدي، لتهيئة المتعلمين، ونكون ممن يستثمر معاناته ويحولها إلى نعمة.
[email protected]