بقلم: طارق الفريح
كعادته نهار كل يوم، يحلق بأجنحته المنهكة جراء حبسه ليلا بسجن ذي قضبان ذهبية في ذلك القصر الشاسع والبراق بعيون قاطنيه، أرجاؤه تحوي لوحات رسمت بأيدي أناس لم يرغبوا يوما في ثمن لأعمالهم التي لم تكن سوى ترجمة لمشاعرهم المكبوتة، وصور التقطت من قبل أصحابها الذين لم يطمحوا لشيء حينها سوى تحقيق الذات المولعة بتصوير الجمال، وتحف وتماثيل ومنحوتات صنعتها أنامل قاسية مختلطة بعرق رجال ورثوا هذه الصنعة من آبائهم لكسب الرزق، يشاهد تلك الزرقة التي تحوي بقع البياض، لكنه يدنو منها بمهارة معتادة، فاليوم هو الثلاثون له في هذا المكان الموحش، لقد خدع في المرة الأولى عندما اعتقد بأنها السماء، ولم تكن نتيجة تلك المحاولة سوى اصطدام ألم بروحه قبل جسده النحيل، فقد أيقن لحظتها أنه لن يرى السماء مجددا، وأنه لن يلاعب الهواء ويراقصه، وأن الشمس سيكون بينه وبينها حاجب حقير اسمه النافذة، فالجدار على الأقل أرحم منها بأن يجعلك تسقطها من مكونات الكون، بينما النافذة تحرق روحك وقلبك بجعلك تشاهد الشمس من دون أن تستشعر لسعاتها، كلما حاول ممارسة مهارة طيران فطرية يتراجع في لحظة يأس، ويستمر في طريقته الميكانيكية المحسوبة بدقة، توقف في إحدى محطاته المعتادة، تلك التحفة الرخامية التي اشتراها صاحب هذا القصر من ملياراته التي جناها باستثماره الدائم لأحلام الفقراء، يمعن النظر في الطبيعة الخلابة، يحاول أن يخدع نفسه بتحاشي النظر لانعكاس الإضاءة على النافذة، لكنه يقمع بإغلاق الستارة من قبل إحدى خادمات القصر، فهي كما بقية قاطني هذا المكان، لا تولي أي اهتمام لهذا الطائر الصغير، فهو بنظرها مجرد دمية من مئات الدمى التي اشتراها رب عملها لطفله، لكن الفرق الوحيد هو أنها دمية تحوي قلبا ودما وروحا، ورغم أنه يعيش في قفص ذهبي، وبأمان من خطر مخلوقات تريد التهامه، أو أناس يريدون اصطياده، إلا أن قواه خارت وقدرته تراجعت، ويعلم يقينا بأنه لم يعد يستطيع أن يجاري أقرانه الأحرار في الخارج، قفز من مكانه فزعا إثر صوت كسر زجاج هتك ستار صمته، وبعد أن هدأ أحس بشعور غريب، بدأ يشم نسناس الطبيعة ورائحتها التي افتقدها لشهر كامل، وكأن الفطرة أبت الموت رغم هذا السجن الكئيب الذي يموت به مرة كل دقيقة، فتح جناحيه مسرعا إلى حيث تقوده الفطرة، ليرى الطفل الذي أسره عن غير إدراك وقصد يقف ضاحكا أمام النافذة التي حطم جزءا صغيرا منها، الخادمة منزعجة تلملم بقايا القطع الصغيرة المتناثرة من الزجاج، هنا تردد الطائر قليلا في الانطلاق، فالثقب صغير يكاد يتسع جسمه الرقيق، والزجاج حتما سيخدشه أثناء مروره، لكن الغلبة كانت للفطرة والطبيعة، فطار مسرعا كالمشتاق لأمه بعد فراق طويل، ليعبر ذلك الثقب وهو يشعر بلسعات مؤلمة، تنفس الحرية أخيرا، داعبته أشعة الشمس، رقص مع الهواء، لكنه لم يستطع إكمال تحليقه في تلك الأجواء، فبدأ الهبوط القسري شيئا فشيئا، حتى ارتطم بشجرة وسقط على العشب أخيرا، لينزف دمه الطاهر في الطبيعة، ويغمض عينيه للمرة الأخيرة وهو يرى السماء بسحبها البيضاء النقية، حتى مات بكرامة وحرية. @tareqalfreah
[email protected]