في يوم 26 أغسطس سنة 1520م الذي أصدر فيه ماجلان أمره إلى بحارته بالنزول إلى البر مرة أخرى كان الرجل قد بلغ فعلا الهدف الذي يقصده وليس عليه إلا اجتياز درجتين من خط العرض والسير في البحر مدى يومين بعد أن مكث 300 يوم، لكن ماجلان لا يعرف أن ما يبحث عنه قد أصبح في متناول يده وها هو يقضى شهرين طويلين منتظرا عند مصب ذلك النهر الصغير على ذلك الساحل الأجرد المهجور وماجلان غير مدرك أنه عند المنفذ وليس عليه إلا أن يخطو بضع خطوات ليظفر بالنجاة.
وماجلان ذو الإرادة الحديدية الذي أراد أن ينتزع من الأرض سرها ففي 18 أكتوبر سنة 1520م أمر باستئناف الرحيل فأقيمت الصلاة واشترك فيها جميع البحارة واتجهت السفن ناحية الجنوب، وفي 21 أكتوبر سنة 1520م رأى البحارة لسانا من المياه داخلا في البحر تكتنفه صخور بيضاء، ويمتد كخليج عميق ذي مياه قاتمة، وما أروع ذلك المنظر وأغربه وهو عبارة عن جدران من الصخور ترتفع عمودية تتخللها شقوق عميقة وتبدو من بعيد قمة عالية يكللها الثلج وخالية من الأشجار وتحيط بها الجبال.
ألح ماجلان على رجاله في أن يفحصوا الخليج الغريب ونفذ قادة السفن أمره متذمرين، حيث كانوا يظنون أن ذلك الخليج مغلق، وقرر ماجلان أن تبقى سفينة القيادة «ترينيداد» والسفينة «فكتوريا» عند مدخل الخليج والسفينة «سان انطوبنو» والسفينة «كونسبسيون» عليهما الانطلاق إلى أبعد ما يكون أن تصلا داخل القناة، فالوقت أصبح ثمينا والمؤن الغذائية تنقص يوما عن يوم، ولكن ما شغل بال ماجلان هو مصير السفينتين سان انطوبنو وكونسبسيون اللتين فاجأتهما العاصفة بلا شك داخل المضيق، وأخيرا صدرت إشارة من حجرة المراقبة برؤيتهم عمودا من الدخان يتصاعد عن بعد والسفينتان تبدوان للأنظار وحمل الصدى زمجرة المدافع وهي تقصف كالرعود ورفعت على الصواري جميع الرايات والأعلام ولوح البحارة والربابنة بأيديهم من بعيد وهم يرسلون الأصوات صائحين، وفهم ماجلان والبحارة معنى ذلك أنها لغة الانتصار والنبأ الذي حملته السفينتان كان نبأ مباركا وهنا بدأ الفرح واضحا على ماجلان من جراء هذا النبأ المفعم بالأمل.
ورفع ربان السفينة «كونسبسيون» تقريرا ذكر فيه: الرحلة كانت شاقة، وهذا المنفذ ليس نهرا فالمياه فيه مالحة وهذا الخليج غير مغلق بل مفتوح خلف نتوء صخري في شبه قناة والمسافة بين البحر والساحل والفرجة واضحة ومنتظمة فهي لا تضيق شيئا فشيئا كمجاري الأنهار كلما بعدت المسافة نحو الداخل، بل على العكس تتسع ولا تضيق وتظل محتفظة بعمقها.
ويمكننا أن نتصور الفرح الذي بعثه هذا النبأ المفعم بالأمل في نفس ماجلان، فقد كان مصمما على العدول عن مواصلة رحلته، وكان يفكر في العودة من طريق رأس الرجاء الصالح جنوب قارة أفريقيا، لكن حلمه تحقق بوجود الممر المائي في الساعة التي كان مشرفا فيها على التراجع، فينبغي إذن ألا تضيع لحظة واحدة فلترفع المراسي وتنشر القلوع طلقات أخيرة من المدافع لتحية الملك وصلاة أخيرة على عزم القائد العام ولتنطلق السفن بشجاعة في هذا السرداب، فإذا وجد ماجلان في هذه المياه السوداء طريقا مؤدية إلى البحر الممتد من الناحية المقابلة فسيكون أول من اكتشف الطريق لتحقيق الطواف حول العالم[email protected]