زارني أحد أبناء الكويت من الشباب الراغبين بالمعرفة، ولذا فإنه إذا سمع خبرا أو معلومة من المعلومات التي تطرح في بعض المجالس التي يغشاها؛ يسارع الى البحث فيما وراء ما سمعه من حديث، رغبة في اكتشاف الحقائق، والازدياد من المعرفة.
سعدت بحضوره كما أسعد بلقاء أمثاله من الراغبين في استجلاء المعلومات الحقيقية، خاصة ونحن نرى كثيرين ممن يكتبون غير حريصين على إظهار الأمور على حقيقتها، وهم على غير استعداد للسؤال والبحث عن الحقيقة، ولذا فإنهم يكتبون ما بدا لهم وإن كان مفارقا للحقائق.
جلس الفتى فسألته عن موضوع حديثه، فإذا به يتحدث عن أمر معروف، وارد ذكره في كثير من الكتب، فلو تصفح أحد الكتب ذات العلاقة بما يريد معرفته لوجد ما يريده بيسر، وبتوسع يعينه على البحث الطويل.
فقلت له ذلك، ولكنه أجاب:
ـ انا لا أقرأ الكتب، فقد استغنيت عنها بالإنترنت أعود إليه كلما أردت معرفة شيء بذاته، ولكنني ـ في هذه المرة ـ لم أجد ضالتي فيه، فهل تجيبني؟
رددت عليه قائلا: إن ما تقوله الآن مما يجعلني أدير الحديث معك إلى جهة أخرى لم تأت لأجلها، وهي معرفة الجهة التي نستطيع عن طريقها الحصول على الحقائق بكل أنواعها. هل هي متاحة في الكتب، أم هي متاحة في الإنترنت. ولذا أود أن أقول لك:
ـ ليس الإنترنت شيئا مجهولا بالنسبة إلي، فقد عدت إليه مرارا، لكنني أود أن أقول لك ان كثيرا مما يرد فيه إنما يعبر عن آراء شخصية لا تصمد لاي تمحيص او نقد.
بدليل شطب كثير مما يرد فيه بعد فترة قصيرة من نشره، وبدليل عدم نسبة بعض ما يقال إلى أناس موثوق بهم في التخصصات التي تصدر بشأنها الفقرات الواردة في هذا الجهاز.
وانت ترى الكتاب ـ على العكس من ذلك ـ يحتفظ بمعلوماته، وعلى غلافه اسم مؤلفه الذي هو مسؤول عن كل ما جاء فيه.
ثم بعد ذلك أنت مخير في انتقاء ما تراه من الكتب وما تريد ان تقرأ له من المؤلفين، لان اي موضوع تريد ان تسبر أغواره لابد وان يكون قد كتب عنه اكثر من كتاب، يختار القارئ منها ما يشاء.
وصمت الفتى قليلا حتى ظننته يتأمل في كلامي إليه، ولكنه قال:
ـ اضرب لي مثلا لما تقوله عن الكتب.
فقلت له:
ـ لن أضرب الامثال لان الكتب متيسرة في كل مكان، لكنني سوف اقرأ عليك بضعة أبيات من شعر ابي الطيب المتنبي الذي ترى ديوانه الآن أمامك فوق مكتبي.
قال:
ـ وما علاقة المتنبي فيما نحن فيه؟
فرددت:
ـ انظر إلى اختياري منه وسوف تعرف، فأبدى استعداده للاستماع، وفتحت الكتاب الذي يضم الديوان المذكور، وقرأت له منه هذه الأبيات:
مُــنــىً كُــنَّ لي أَنَّ البَـيـاضَ خِـضـابُ
فَـيَـخـفـى بِـتَـبـيِـيـضِ القُـرونِ شَبابُ
لَيـالِيَ عِـنـدَ البـيـضِ فَـودايَ فِتنَةٌ
وَفَــخــرٌ وَذاكَ الفَــخـرُ عِـنـدِيَ عـابُ
فَـكَـيـفَ أَذُمُّ اليَـومَ ما كُنتُ أَشتَهي
وَأَدعــو بِــمـا أَشـكـوهُ حـيـنَ أُجـابُ
جَـلا اللَونُ عَـن لَونٍ هَدى كُلَّ مَسلَكٍ
كَـمـا اِنجابَ عَن ضَوءِ النَهارِ ضَبابُ
وَفـي الجِـسـمِ نَـفسٌ لا تَشيبُ بِشَيبِهِ
وَلَو أَنَّ مـا فـي الوَجـهِ مِـنهُ حِرابُ
لَهــا ظُــفُــرٌ إِن كَــلَّ ظُــفــرٌ أُعِــدُّهُ
وَنـابٌ إِذا لَم يَـبـقَ فـي الفَمِ نابُ
يُـغَـيِّرُ مِـنّـي الدَهرُ ما شاءَ غَيرَها
وَأَبـلُغُ أَقـصـى العُـمـرِ وَهِـيَ كَـعـابُ
وَإِنّـي لَنَـجـمٌ تَهـتَـدي بِـيَ صُـحـبَـتـي
إِذا حـالَ مِـن دونِ النُـجـومِ سَـحـابُ
غَـنِـيٌّ عَـنِ الأَوطـانِ لا يَـسـتَـفِـزُّني
إِلى بَـــلَدٍ ســـافَــرتُ عَــنــهُ إِيــابُ
وَعَـن ذَمَـلانِ العـيـسِ إِن سامَحَت بِهِ
وَإِلّا فَـــفـــي أَكـــوارِهِـــنَّ عُــقــابُ
وَأَصدى فَلا أُبدي إِلى الماءِ حاجَةً
وَلِلشَــمــسِ فَــوقَ اليَـعـمُـلاتِ لُعـابُ
وَلِلسِــرِّ مِــنّــي مَــوضِــعٌ لا يَـنـالُهُ
نَــديــمٌ وَلا يُــفــضــي إِلَيـهِ شَـرابُ
وَلِلخَـودِ مِـنّـي سـاعَـةٌ ثُـمَّ بَـيـنَـنـا
فَــلاةٌ إِلى غَــيــرِ اللِقــاءِ تُـجـابُ
وَمــا العِــشــقُ إِلّا غِـرَّةٌ وَطَـمـاعَـةٌ
يُـــعَـــرِّضُ قَـــلبٌ نَـــفــسَهُ فَــيُــصــابُ
وَغَــيــرُ فُــؤادي لِلغَــوانــي رَمِــيَّةٌ
وَغَــيــرُ بَــنــانــي لِلزُجــاجِ رِكــابُ
تَـرَكـنـا لِأَطـرافِ القَـنـا كُلَّ شَهوَةٍ
فَــــلَيـــسَ لَنـــا إِلّا بِهِـــنَّ لِعـــابُ
نُـــصَـــرِّفُهُ لِلطَـــعـــنِ فَــوقَ حَــوادِرٍ
قَـدِ اِنـقَـصَـفَـت فـيـهِـنَّ مِـنـهُ كِـعـابُ
أَعَـزُّ مَـكـانٍ فـي الدُنـى سَـرجُ سابِحٍ
وَخَــيــرُ جَـليـسٍ فـي الزَمـانِ كِـتـابُ
هذه الأبيات تأتي في مطلع قصيدة طويلة قالها لمتنبي في مديح كافور الإخشيدي الذي كان يحكم مصر في سنة 960م وما حولها. ولقد كانت آخر قصيدة انشدها المتنبي أمام هذا الحاكم ولم يستطع المقام في مصر بعدها لانه يئس من كافور ومواعيده له، وكانت كلها مواعيد لا يهتم بالوفاء بها.
المهم عندي ـ أيها الفتى ـ أن أشير الى هذه الأبيات التي قرأتها عليك فانظر الى المتنبي، وتأمل في أقواله:
يمكننا ان نقسم هذه الابيات كما يلي:
أ ـ تتحدث الأبيات الأربعة الأولى عن الشيب، وكيف تسلط على شعره، ولكنه لا يذمه ولا يأسف عندما اصطبغ جانبا رأسه بهذا اللون الأبيض فقد كان يتمناه منذ كان في أول بابه حتى لقد كان يرجو ان يجد خضابا بالبياض يجلو اللون الأسود.
الذي كان فتنة للغواني، وفخرا وكان يراه عيبا لا يرضاه لنفسه.
والان وقد هجم عليه الشيب، فقد حل به ما كان يشتهيه، واجيب دعاؤه به حين دعا، فهو يستنكر أن يذم هذا اليوم الذي جاء له فيه ما يريد.
فقد جاءه هذا اللون ـ مع كبر السن ـ بالحكمة، وانار له مسالك الحياة، فانجابت عنه الظلمات كما ينجاب الضباب عن وجه النهار.
ب - وينتقل في الأبيات الثلاثة اللاحقة الى وصفه لنفسه، وهو وصف معبر تمام التعبير عن شعوره بقوة شخصيته، وتمام مقدرته على مجابهة الملمات بفضل هذه النفس التي لا تشيب بشيب الجسم، بل تظل شابة على حالها الأول، حتى ولو انتشر الشيب على وجهه بما يشبه الحراب.
وهي في استمرار قوتها ذات ظفر قوي وناب شديد، لا يكل أبدا حتى ولو كَلَّ نابه وظفره.
ويقول: إن الدهر ليُغيرُني - ما شاء - ولكنه لا يغير نفسي أبدا ويصل بي كبر السن مداه، وهي على شبابها باقية.
ج - ويصف حاله القوي بفضل هذه النفس فيقول إنه كالنجم بين أصحابه يهتدون به، إذا أفلت النجوم أو حال دونها سحاب، ويذكر أنه يجوب الأوطان، فكل مكان يصل اليه هو وطنه، ولا يشتاق الى وطن سواه.
فهو غني عن البقاء في موضع بعينه، وهو قادر على الترحال، لا يهتم بسير الإبل الى ما يقصده، بل إنه ليقول إنني أشعر بنفسي كالعقاب الطائر الذي يستطيع الطيران الى الوجهة التي يريد الذهاب إليها.
وأنا لشدة ما أشعر به من قوة النفس لأحس بالعطش (أصدَى)، فلا أبدي لأحد حاجتي إلى الماء، وذلك في الوقت الحار، والنهار المشمس حين يقع شعاع الشمس ظهرا على الإبل فيزداد الجو حرارة، ويشتد العطش في الناس الراحلين.
أما أنا فإنني - إضافة الى ذلك - كتوم للسر لا أبوح به لأحد، لا يعرف به حتى النديم الذي يجالسني، ولا أبوح به ولو كان ذلك في وقت الشراب.
وكان كل ذلك في خمسة أبيات.
د - ثم انتقل الى ثلاثة أبيات يذكر فيها علاقاته بالنساء الخود (الناعمات) فيذكر أن تعلقه بهن لا يطول فما هي إلا ساعة ثم تفصل بيننا صحراء واسعة لا نجاب فيها الى نداء باللقاء.
إن العشق عنده اغترار بالمعشوق وطمع فيه وأنه يُسبب مرضا في قلب العاشق. ولذا فإن فؤاده لم يكن للنساء مرمى، وليست يده مركبا لكأس الخمر تحمله للذتها.
هـ - وفي آخر اختيارنا يأتي المتنبي الى ثلاثة أبيات أخر يقول فيها:
لقد تركت كل شهوة لي، واكتفيت بأطراف الرماح المستعملة سلاحا في الحروب. حتى إذا دعاني حب اللهو، فإنني أجد شهوتي بها، ألهو بمطاعنة الأقران، وأنا ومن معي في هذه الحالة، نصرف الرماح فوق خيل غلاظ سمان، قد ألفن الحروب، وتكسرت فيهن كعاب الرماح.
ثم يأتي هذا البيت الفريد الذي صار مثلا جاريا الى يومنا هذا بين الناس وهو قوله بعد أن تحدث عن الخيل والرماح ومطاعنة الأقران، إن أعز مكان في الدنيا هو سرج حصان يسير بي وكأنه سابح في الهواء لسرعته وقوته، أما خير جليس في الزمان فهو الكتاب، فيه أطلع على ما أريد معرفته.
>>وبعد الذي تقدم ساد صمت قصير ثم سألت جليسي:
ألم تستمتع بما سمعته من شعر المتنبي؟
قال: بلى إنها أبيات جميلة تزخر بمعان تلفت الأنظار، وتصف الشاعر بما هو فيه حقا. ولقد علمت السر في اختيارك لها.
قلت:
حقا؟ وما هو؟
قال: البيت الأخير الذي يقول شطره الثاني:
«وخير جليس في الزمان كتاب» ولا شك في أنني أستمع الى هذا الوصف الرائع للكتاب لأول مرة، فقد أعطى الكتاب حقه، فهو - فعلا - خير جليس، يفيد ويسلي في وقت واحد.
أجبت: بارك الله فيك هذا ما أردت أن أقوله لك عندما اخترت هذه الأبيات.
فاتجه الى مكتبتك مرة أخرى ولكن لا أدعوك الى هجر الإنترنت، إذ ربما تجد فيه فائدة في بعض الأحيان.
ولعلك أن تبدأ بقراءة ديوان المتنبي، فإنك سوف تجد فيه جواهر خلابة، إذ إنك سوف تجد وصفه لشعب بوان الذي مر به وهو في طريقه الى الوفود على أحد الأمراء، حيث يقول في بدايته:
مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني
بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها
غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها
سُلَيمانٌ لَســــــــــارَ بِتَرجُمانِ
وهي قصيدة - بأكملها - من الروائع الشعرية.
وستجد قصيدة أخرى لابد وأنك قد استمعت اليها حين غناها عدد من المغنيين الكويتيين على لحن الصوت الشعبي المعروف في الفنون الكويتية ولاتزال تردد الى اليوم، وهي قول أبي الطيب:
لَيَاليّ بَعْدَ الظّاعِنِينَ شُكُولُ
طِوالٌ وَلَيْلُ العاشِقينَ طَويلُ
يُبِنَّ ليَ البَدْرَ الذي لا أُريدُهُ
وَيُخْفِينَ بَدْراً مَا إلَيْهِ سَبيلُ
ولعلك ترى المتنبي وهو يبدأ قصائده بمثل ما كان معاصروه ومن سبقهم يبدأون به وهو الغزل، ولكنه يأتي به على شكل غير مباشر، فكأنه - وهذا حقيقة - يأتي بشيء جديد، وهو ما تعبر عنه أكثر قصائده، ومنها هذه القصيدة الجميلة:
مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ
أَنا أَهوى وَقَلبُكَ المَتبولُ
كُلَّما عادَ مَن بَعَثتُ إِلَيها
غارَ مِنّي وَخانَ فيما يَقولُ
أَفسَدَت بَينَنا الأَماناتِ عَينا
ها وَخانَت قُلوبَهُنَّ العُقولُ
واستأنفت من قول المتنبي قائلا:
تَشتَكي ما اِشتَكَيتُ مِن أَلَمِ الشَو
قِ إِلَيها وَالشَوقُ حَيثُ النُحولُ
وَإِذا خامَرَ الهَوى قَلبَ صَبٍّ
فَعَلَيهِ لِكُلِّ عَينٍ دَليلُ
زَوِّدينا مِن حُسنِ وَجهَكِ ما دا
مَ فَحُسنُ الوُجوهِ حالٌ تَحولُ
وَصِلينا نَصِلكِ في هَذِهِ الدُنـ
ـيا فَإِنَّ المُقامَ فيها قَليلُ
ألا ترى كيف سار بنا المتنبي في شعاب مختلفة من القوى حتى إننا لنراه في الموضوع الواحد وهو الغزل عند بدايات القصائد وهو ينوِّع ويبدع كل جديد:
لقد قال هذه القصيدة التي اخترتها لك ثانيا وبدأها بالغزل الذي اختار له طريقة خاصة به، في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة للهجرة ووجهها الى سيف الدولة الحمداني حاكم حلب، وممدوح المتنبي الشهير.
وهي قصيدة طويلة كما في ديوانه، وقد نالت حظها من الغناء في منطقة الخليج العربي حين استمعنا الى المطرب البحريني الذائع الصيت محمد زويد وهو يطربنا بها خلال حفلاته التي تذاع علينا بكل الوسائل المتاحة.
*****
وعلى كل حال فإنني لم أرد أن أتكلم عن هذا الشاعر العبقري حين بدأت حديثي معك، بل أردت أن أقول لك إن القراءة المباشرة للكتاب أمر مهم، وأن في الاستغناء عنه ضياع لكنوز غالية من المعرفة والعلوم والآداب.
والآن: قل لي ما الذي تريد الاجابة عنه حين أتيت لزيارتي؟
رد الفتى: إن ما سمعته الآن يكفي عن كل سؤال، فقد استفدت فوائد جمة أشكرك عليها، وسوف أعود الى مكتبتي من جديد. واسمح لي بعودة أخرى الى مجلسك.
قلت: على الرحب والسعة في أي وقت.