[email protected]
العزاء سُنة وقيمة إنسانية، طالما أبكتنا الأقدار بحجم المصاب منذ وجد الإنسان ووجد أمامه هذا المصير المحزن المفاجئ، هو «هادم اللذات» الموت القادم من القدر لكل إنسان لا محالة، فيصبح أثرا بعد عين، وكأن لم يكن شيئا مذكورا.
سعادة السفير حفيظ العجمي (سفيرنا في قطر)
ولكل عائلة وأسرة مراثيها، وفقيدنا اليوم، شيخ الشباب طالب العلم دارس تغرّب عن وطنه من أجل شهادته في بريطانيا في الزمن الكوروني وكأنه يريد أن يؤرخها لتبقى في ذاكرتنا محفورة حتى لا ننساه على مر الزمن.
فقيدنا اليوم ابننا الغالي طالب العلم عبدالله حفيظ محمد سالم العجمي الذي وافاه الأجل عن عمر يناهز 25 عاما في بريطانيا إثر سكتة قلبية لتفجعنا بموته في 20/11/2020 في لندن حيث يستكمل دراساته العليا في العلاقات الدولية بأرقى جامعاتها، وليصل الى الكويت بالأمس على طيران الخطوط الجوية الكويتية الأربعاء 17 من ربيع الآخر 1442هـ الموافق 2 ديسمبر 2020م وليدفن في مقبرة صبحان عقب صلاة العصر في يوم ماطر غابت فيه الشمس اللهم إلا ساعة وضع جثمانه الثرى وكأن السماء منعت دموعها وأشعة الشمس شجعت المتواجدين كي يسيروا بجثمانه الطاهر الى مثواه الدنيوي والكل يجد مساحة من الوقت غير الممطر ليدعو له متذكرين قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) آل عمران، فالموت من آيات الله ومعجزة من معجزاته فلا توجد قوة على وجه الأرض تمنعه، فالموت لا يهاب أحدا ولا يخاف أحدا.. أبدا، وسنظل بشرا نموت ونفقد أنفسنا وأقاربنا وأصدقاءنا.
ولد عبدالله حفيظ العجمي في دمشق 1995، حيث كان يعمل والده ديبلوماسيا في الجمهورية العربية السورية الشقيقة.
بدأ حياته الدراسية في مدارس الملك فيصل بن عبدالعزيز في العاصمة السعودية (الرياض)، حيث عمل والده ديبلوماسيا في المملكة العربية السعودية الشقيقة ثم عاد الى الكويت وواصل دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدرسة الرؤية ثنائية اللغة بصباح السالم، ثم درس المرحلة الثانوية في مدرسة ABA بالكويت ومدرسة القادة في دولة قطر، ثم رحل الى الولايات المتحدة بمدينة بوسطن لينال شهادة البكالوريوس ثم عاد الى الكويت ثم الى دولة قطر برفقة والده (سفيرنا في قطر) وكأنها استراحة محارب، ثم غادر الى بريطانيا ليستكمل دراسته العليا في العلاقات الدولية بأرقى الجامعات الإنجليزية، حيث حدثت الوفاة ولا راد لقضاء الله، وتنتهي رحلة طالب العلم، رحمه الله.
الرثاء يقترن بالموت وأنا بالأمس عندما ذهبت قبيل صلاة العصر لم تحملني قدماي واستعدت شريطا طويلا يوم فقدت نجلي أحمد، رحمه الله، في ديسمبر 2014، وهكذا هي الدنيا يكون فيها ندب الموتى متزامنا مع البكاء والنواح، ولكن ولله الحمد وجدت بالأمس في صبحان 3 جنائز للرجال وجنازتين للنساء وجميع أهلهم يظهرون التجلد والصبر:
كم من أخ لي حازم
بوّأته بيدي لحدا
أعرضت عن تذكاره
وخلقت يوم خلقت جلدا
هي الدنيا، فمن يبكي اليوم غيره يصبح بعد قليل من الزمن محمولا الى نفس المصير!
كان أخي وأستاذي ومعلمي سعادة سفيرنا في دولة قطر الشقيقة الأخ حفيظ العجمي، متماسكا شامخا وهو يستقبل معزيه وهو المكلوم، صابرا محتسبا، وليعطينا جميعا درسا بليغا في مسلك الأب الحزين الذي فقد فلذة كبده وأي حزن أعظم من هذا المصاب، أليس الله تبارك وتعالى القائل: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الكهف 46.
وليس فقد أحد مثل فقد الولد كما قال الشاعر:
يؤلم القلب لكل فقد ولا مث
ل افتقاد الآباء للأبناء
فقد الأبناء شديد على النفوس خاصة الأم والأب والإخوان والأخوات فهو والله كفقد الجوارح وقد قيل:
أولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البين الفقد
سبحان الله، هذا الفقيد أعجزني أن أكتب رثاءه، فكم من مرة أمسك القلم كي أكتب ولا أتماسك وأرمي القلم وأترك وريقاتي على مكتبي لأصلي لله عز وجل وأدعو له بالقبول في قبره وأن يوسع الله مدخله ويكرم نزله ويجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يكون مآله الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
كنا فرحين ومعتزين في ولدنا «عبدالله» ذاهب الى بريطانيا ليكمل دراسته العليا وينال الشهادة وإذا بالموت قاطع كل فرحة وليذكرنا جميعا بأن نتذكر الموت في كل لحظة وعلينا أن نكون على يقين صادق ودائم بأن الله عز وجل عندما يسترجع أمانته فينا هو الرحمن الرحيم والقادر على إنزال السكينة على قلوبنا فتصغر الدنيا في نظرنا فالموت تنبيه للغافلين وذكر يرد المعرضين وذكر الموت أيضا يسبب التوبة للمسيئين.
جاءني اتصال من العم العزيز الشيخ سلطان بن حثلين يطالبني بأن أنقل تعازيه للأخ حفيظ العجمي وترحمنا على نجله راكان وابني أحمد، رحمهما الله، وهو يوصى الأب الغالي بأن قدوتنا في حالة موت عزيز لدينا هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو القائل عند وفاة ابنه إبراهيم: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وفي اتصال مع الزميل والأخ عبدالهادي العجمي (ابو متعب) طلب أن اسجل في الرثاء هذا البيت لراكان بن حثلين يرثي أخاه لأمه حشر بن فالح بن مانع بن حثلين:
يا «حشر» من عقبك يفك الطلابه
لا جات من عيّ طروقه مخلاه
الإنسان منا في حياته يجرب كل أنواع البكاء مثل بكاء الخوف او المحبة او الفرح او الجزع وأعظمه بكاء الحزن ويختلف كل بكاء عن الآخر وأصعب هذا البكاء بكاء فقد البنين!
قال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
فقد الأبناء ابتلاء في طيه نِعم!.. وكيف ذلك؟
ذلك نعمة لمن أيقن وعد الله عز وجل من لا يعيش له ولد أو الفاقد لأولاده وله ثواب عظيم في مصيبته وصبره وهذا ينطبق على الأم والأب وأيضا إخوان وأخوات الفقيد، لهذا قيل: الصبر على الابتلاء أعظم عطاء!
٭ ومضة: كان أبوبكر رضي الله عنه: إذا عزى رجلا قال: ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة، الموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، اذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم تهن عندكم مصيبتكم، وعظّم أجركم.
عزى عبدالله بن عباس رضي الله عنه - عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابن له مات فقال: عوضك الله منه ما عوضه منك.
٭ آخر الكلام: عبدالله.. اسم على مسمى فهو الخضوع لله وحده، كان أكبر من عمره، سباقا فزاعا لمساعدة إخوانه وأهله والآخرين، وكان طوال حياته يحرص على ألا يغضب والديه وكان على الدوام محط شكر أساتذته ومعلميه ومعارفه وأصحابه وكان طموحا شجاعا مقداما يعرض رأيه ويدافع عنه، بسّاما يحب المرح في وقته وله حضور في الجلسات العائلية ويعرف تماما ما يجعل والده وأمه وإخوانه راضين عنه، شخصية «كاريزما» فيها قيادة وحبابة ونجابة، وفيه كثير من جده محمد بن سالم وذين العجمي ووالده النشمي وهذه على العموم من صفاته فرسان العجمان كبارا وصغارا وهكذا طويت صفحة بيضاء ناصعة لولدنا «عبدالله» الذي يتمثل فيه قول الشاعر:
أتاه قضاء الله في دار غربة
بنفسي غريب الأصل والقبر والقدر
فوالله لو أسطع قاسمته الردى
فمتنا جميعا أو لقاسمني عمري
٭ زبدة الحچي: لعل القارئ الكريم الذي فقد عزيزا ويدعو الآن أن يشرك ابننا عبدالله في دعائه فقد كان هدي السلف الصالح يدعون لأمواتهم وأموات المسلمين بأكف ضارعة وقلوب وجلة وقلوب مملوءة بالرحمة، يحاولون رفع الكدر عن الحزين الذي أصابه القدر ويواسون من فكر واعتبر واحتسب الأجر وصبر.
الدنيا دار ابتلاء واعلموا أن المصيبة ثابتة وتقل مع طي الزمن فلا تجزع واصبر.
ولو أنني أنصفتك الود لم أبت
خلافك حتى ننطوي في الثرى معا
٭ ختاما: قال لي والده سعادة السفير حفيظ العجمي ـ أبا محمد ـ ليتني أستطيع تقديم الشكر مواجهة لكل أهلنا في ديرة الخير بلدي الكويت وأميرنا وولي عهدنا الأمين وحكومتنا وشعبنا الوفي وللأشقاء في دولة قطر الشقيقة أميرا وولي عهد وحكومة ووزارة الخارجية والشعب القطري، الذي غمرني بطيب مشاعره الكريمة ولسفارتنا في لندن والعاملين فيها سفيرا وعاملين، وقال قبل أن أنهي شكري وعاطر ثنائي: أرجو أن تهمس في أذن إخواني الذين لا يحبون ذكر الثناء ويؤثرون لغة الصمت، أبلغهم فخري واعتزازي بأخوتهم، فهم إخواني الذين لم تلدهم أمي، أنتم عزوتي وتاج على راسي ووسام على صدري.
٭ وداعا
يا عبدالله.. أنت يا وليدي محلل، فلقد استرد الله أمانته فيك والكل راض عنك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ» البخاري.
أبشر يا عبدالله ولا نزكي على الله أحدا، فرغم صغر سنك حصدت الخير والمحبة كلها ربنا إننا نضرع لك يا حي يا قيوم يا رب السماوات والأرض أن تغفر له وترحمه، أكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيرا من داره وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وأنت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم.
قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف.
يا عبدالله، هنيئا لكل من فقد من أبنائه (بيت الحمد) وليس لنا إلا الصبر يا حبيبي وقرة عين والديك وأخيك محمد، فسبحان من لا يحصي العباد نعمه ونحن نصبر محفوفين بمعية الله وعظيم أجره والله يحب الصابرين.
يا طالب العلم يا عبد الله ربح البيع وعظم الأجر وأبشرك والدك صابر محتسب ووالدتك امرأة عظيمة مؤمنة بأقدار الله.
يا عبدالله.. موعدنا في بيت الحمد وهذا والله هو دواء وسلوة الحزين عند فقد البنين، يا أهلي في الكويت وأحبابي في داخل الكويت وخارجها أسألكم الله عز وجل أن تدعو لهذا الشاب الصالح في ليلة الجمعة ويوم الجمعة وسائر الأيام.. عظّم الله أجر أخي الغالي حفيظ العجمي وأسرته و(إنا لله وإنا إليه راجعون).. وتسقط دمعات!