[email protected]
بعيدا عن الإعلام والتطبيل وتمسكا بالواقع أكتب..
من اللهجات التي تربى عليها جيلي المخضرم «اللهجة المصرية» التي كانت معنا في بيوتنا من خلال الأفلام المصرية بالأبيض والأسود!
وبعيدا عن مسمى «المصاروة والكوايتة»، أكتب اليوم لكم عن هذه اللهجة التي كادت تحكم العالم العربي لأن «الغزو المصري» بدأ عن طريق الأفلام وايضا النسب وبحكم ان «الذي ما عنده كبير يشتري له كبير»، كنا دائما وأبدا في «الصف المصري» لأن مصر عمود العرب وأمة الإسلام، رضي من رضي وزعل من زعل!
طبعا لن أخوض كثيرا في الاصطلاح العلمي في تفسير اللهجة، لكن يمكنني القول إنها مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي الى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد تلك البيئة.
وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات لكل منها خصائصها من الظواهر اللغوية مثل: «الإسكندرانية» مثل كلمات «نحمدوه.. نشمموه» وغيرهما. وهناك لهجة «أبوالعربي» في منطقة القناة وبعض المحافظات الساحلية. كما تطرب الأذن لسماع لهجة أهل الأرياف (بعضهم ينطق الكلمة «أريا» من دون الفاء) الذين تأثر لسانهم فيما يبدو بطبيعة مجتمعهم الزراعي. هناك «كونبر» يربط اللهجات، ومثال آخر في وجه قبلي (الصعيد) تتميز كل لهجة بصفات تجعلها تختلف عن اللهجة الأخرى حتى في الاختلاف الصوتي وفوق هذا أو ذاك طريقة تركيب الجمل.
اللهجة المصرية ذات دلالات تاريخية منذ أصحاب البيئة القبطية الى ما تلا ذلك من احتكاك بشعوب كثيرة ومختلفة مثل اليونان والرومان والفرس، ولا ننسى «القبطية» التي يتحدث بها السكان الأصليون!
إذن نحن نتكلم عن «لغة ولهجة» موجودة منذ 3400 سنة قبل الميلاد، لغة «مصرية قديمة ثم لغة مصرية متوسطة، ولغة مصرية حديثة»، وهي لغة موثقة في كتب ووثائق حتى قبل مرحلة التدوين في ورق البردي!
طبعا «المصرية» تأثرت كثيرا بالفتح العربي والإسلامي، وتؤكد بعض الوثائق ان مصر كانت تتكلم العربية قبل الاسلام على ألسنة التجار والجاليات، وان تبادلا حدث بين اللغتين المصرية والعربية أدى إلى ترك آثار إحداهما على الأخرى ولكن من دون ان تفقد أي منهما شخصيتها. والمؤكد ان قرب مصر من الجزيرة العربية واليمن والتجار العرب والقبائل مع الهجرات البشرية أثر في اللغة المصرية، وهكذا ابعدت اللغة العربية اليونانية والسريانية وحلت محلهما، وكل هذا تم مع الاحتكاكات والمعاملات ودور القبائل والهجرات والوفود وكلها امتزجت بالسكان ثم تسيد اللغة العربية واستخدامها في المكاتبات الرسمية ودخولها في التأليف والتصنيف، ومن العربية اشتقت اللهجة المصرية لتكون عنوانا لمصر والمصريين مع التغيرات التاريخية وتطور التركيبة السكانية وبروز وظهور الخصائص التي ثبتت اللهجة المصرية منذ العهد الفاطمي إلى يومنا هذا، وهنا لابد من الإشارة الى دور مجمع اللغة العربية ورواده وهم كثر، لكنني أذكر منهم د. أحمد عبدالستار الجواري رئيس اتحاد المعلمين العرب، رحمه الله، والدكتور الباحث يعقوب يوسف الغنيم وزير التربية السابق، أطال الله في عمره.
ومضة: ما يميز اللهجة المصرية سهولة نطقها وهي لا تتطلب مجهودا عضليا كبيرا فهي من اللهجات اللينة، وما اصطلح بتسميته بالحركات من فتحة وضمة وما أسموه بألف المد والياء والواو وكلها «ساكنة وصوامت»، وهذا يعني انه عند النطق باللهجة المصرية يندفع الهواء من الرئتين مارا بالحنجرة ثم يتخذ مجراه في الحلق والفم داخل ممر ليس فيه «حوائل» تعترضه فتضيق مجراه كما يحدث في الأصوات الرخوة أو كما يحبس النفس في الحرف.
اللهجة المصرية لغة حية مستخدمة لها مقاطع صوتية ونبر أي مقطع من المقاطع كالعادة اللغوية في النطق للمتكلم، والنبر يصلح للفصيح أو العامي، ونظرة فاحصة للتراث والفن المصري تجد مئات الأصوات المميزة في قراءة القرآن وفي الغناء، والأمثلة يصعب حصرها لكثرتها لأن مصر ولّادة.
آخر الكلام: الذي حصل أن اقباط مصر نتيجة صعوبة نطق بعض الحروف اختفت من ألسنتهم مما اضطرهم الى تعلم العربية كلغة تفاهم وتواصل مع مجتمعهم العربي الجديد وهذا أيضا ما جعل «الأصوات الاسنانية» تختفي في اللهجة العامية الفاطمية، وكما نعلم اللغة العربية طاردة للألفاظ الأجنبية وهذا ما فعلته مع كل حرف «مولد» أدخله المولدون أو معرب، فالدخيل في اللغة هو ما يدخلها من ألفاظ أجنبية تتشعب فيما بعد.
زبدة الحچي: المعرب هو اللفظ الذي استعمله العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وأقره العرب المعترف بعروبتهم بعيدا عن «العجمة»!
أما المولد فهو ما أنشأه المولدون من كلمات جديدة وهي كلمات دخيلة دخلت اللغة العربية أو ولدت بالاشتقاق أو المجاز ونقل الدلالة.
من الآفات التي منيت بها العربية في رسمها تلك التي تشوه ما تناقله الأجيال من آثار علمية فتبدل وتغير وتحرف فيها مثلما حصل في التصحيف والتحريف كما حدث في تغيير الحروف المماثلة في الشكل مثل: الباء والتاء والثاء والنون والياء والجيم والحاء والخاء والدال والذال... الخ.
لقد تطورت اللهجة المصرية عبر العربية من اختلاف سوء الخطوط، وسوء القراءة، وسوء الفهم، وسوء السماع، والرسم والتصحيف، وفهم العلماء للمفردة والتحريف والتغيير في شكل الحروف.
هناك خيط رفيع بين اللغة المصرية واللهجة، وقد لعبت الأفلام العربية والسياحة والنسب والعمالة المصرية أدوارا في تثبيت اللهجة المصرية.
إنني اشكر الزميل مؤلف كتاب «اللهجة المصرية بين التراث والمعاصرة» د.عطية سليمان على كتابه الرائع المتخصص، والشكر موصول الى أخي الزميل أحمد صبري «أبوخديجة» على هذه الهدية الثمينة.
وتبقى هي مصر أم الدنيا والمحروسة وكنانة الله في أرضه، وتحية كويتية خالصة لأبناء النيل في داخل الكويت وخارجها، ومن لا يستحسن مقالي اليوم أقول له بكل ثقة ويقين: «يبقى معداش على مصر!».