عندما كنت أسكن في منتصف التسعينيات في منطقة الزمالك بالقاهرة، كنت أصادف رجلا شيخا كبيرا يذرع الشارع طوال فترة الصباح جيئة وذهابا، لم يكن متسولا ولا درويشا ولا مجذوبا، ولكنه كان يسير بطريقة آلية من أول شارع أبو الفدا حتى نهايته ويعود مرة أخرى، ويشعل السيجارة بعقب الأخرى، عندما يحمى قرص الشمس في الظهيرة يختفي تماما، وفي اليوم التالي يعود مع ساعات الصباح الأولى ويكرر ما فعله بالأمس على أن يعود إلى فعله غدا.
***
لأسابيع وأنا ألاحظ هذا الرجل المسن، سألت بواب العمارة عنه وأجاب انه لا يعرف عنه شيئا سوى انه يلجمه أحيانا يقطع الشارع «رايح جاي» منذ شهرين على هذه الحالة، وبحكم فضولي العملي تعمدت في احد الايام أن اقطع عليه الطريق واستوقفه فقط لأروي ظمأ فضولي الصحافي عن سر حكايته، حييته واستوقفته «يا عم»، ثم فتحت معه بابا للحديث، كانت هيئته تدل على انه شخص اكثر من طبيعي، ملابسه واعتناؤه بقيافته بشكل عام، وحديثه لم يكن يدل الا على انه طبيعي جدا، لم أخفه سرا استيقافي له، فكانت الجملة الاولى من إجابته بمنزلة صدمة خفيفة اذ قال لي: «يا ابني ألم تشاهد في حياتك شخصا يمارس رياضة المشي... أنا أمارس الرياضة... اومال كنت فاكر ايه؟!»، ارتفع حاجبي بعد إجابته ذات الصدمة الخفيفة وأعدت السؤال: «... والتدخين يا حاج»، فضحك ليطفئ نار دهشتي وقال: «أنا بعمل رياضة لأن الطبيب هو اللي نصحني بكده عشان عندي مشكلة في القلب... وأنا بعمل بنصيحته... وبدخن في نفس الوقت لأنه مزاجي كده»، ابتسمت وابتسم لأنه يعلم أن جوابه غير منطقي رغم انه الحقيقة كما لمستها من إجابته، وأكمل قبل أن يقفل باب الحديث بيني وبينه: «أنا بكده يا ابني مش عايز اخسر صحتي ولا عايز أعكر مزاجي».
***
منطق ذلك الرجل المسن غير مستقيم وفق المنطق البسيط، ولكنه على الأقل يضع تبريرا لأفعاله، يراه من وجهة نظره صحيحا، اتفقت معه ام لم تتفق، او حتى وجدت إجابته شكلا من الكوميديا الساخرة، الا انه وضع تبريرا لما يفعله ونراه متناقضا.
***
الحكومة أحيانا تتخذ إجراءات وتصدر قرارات بلا أدنى منطق ورغم هذا لا تكلف نفسها عناء تبرير قراراتها تلك، مثلا عندما تلغي حق دعم العمالة بقرار صادر من مجلس الوزراء يحرم آلافا من الحصول على هذا الدعم المستحق والقانوني، ومنذ صدور ذلك القرار غير المنصف، لم يخرج مسؤول واحد ليضع تبريرا واحدا لهذا القرار، لم يكلف نفسه اي من المسؤولين عن الجهات المعنية بتطبيق ذلك القرار بالخروج بأي تصريح من أي نوع ليشرح لنا لم كان هذا القرار، خاصة ان هذا القرار مثلا مخالف تماما لقانون دعم العمالة، بل انه يستند كما جاء في نصه لقرار دمج جهاز الهيكلة والقوى العاملة وهو الدمج الذي لم يحصل بعد، فكيف يتم إصدار قرار استنادا الى قرار لم ينفذ اصلا.
***
أعلنت وزير الشؤون هند الصبيح عن إلغاء إذن العمل للكويتيين العاملين في القطاع الخاص وهو خطوة في الاتجاه الصحيح، وأتمنى أن تكمل الوزيرة طرحها التصحيحي في إلغاء القرار الذي يحرم حملة المتوسط من دعم العمالة كما جاء في قرار مجلس الوزراء الاخير، والاهم أيضا هو اعادة استحقاق دعم العمالة بأثر رجعي الذي جاء في ذات القرار غير المفهوم.
[email protected]