لم يكن تجمع ثلة من مثقفي العراق في إحدى ساحات وسط العاصمة بغداد بداية الأسبوع الجاري للاحتجاج على قرارات حكومية اتخذت مؤخرا بإغلاق محلات الخمور والنوادي الليلية بقدر ما كان تعبيرا عن مخاوف بدأت تتنامى كثيرا في الشارع العراقي إزاء تصاعد وتيرة إجراءات فسرها كثيرون على أنها تسعى باتجاه تحويل العراق لأن يكون دولة إسلامية.
وكان مجلس محافظة بغداد قد اصدر بداية الشهر الجاري اوامر بتفعيل قرارات حكومية اتخذت العام الماضي بغلق محلات الخمور والنوادي الليلية والترفيهية تحت ذريعة انها تتنافي وتتعارض مع الذوق العام «وتخدش الحياء».
تفعيل قرارات الحظر وما رافقها من اجراءات في بغداد تزامنت مع خطوات اخرى في اماكن متفرقة من العراق سجلت بمجملها مؤشرا كبيرا لدى من يحسبون انفسهم مدافعين عن الحريات الشخصية وعن حرية التعبير ويقولون ان الحكومة المركزية تغض الطرف عما يجري.
واعتبر هؤلاء المثقفون ان ما يجري توجه رسمي للدولة العراقية في التحول نحو ما يسمى بالإسلام المتشدد والذي يخشون ان يدفع بالعراق في نهاية المطاف لان يكون دولة اسلامية على نمط ايران او افغانستان.
المعترضون على تلك الأحداث من رجال ونساء والذين احتشدوا في ساحة الفردوس بوسط بغداد رفعوا لافتات كتب عليها شعار رئيسي واحد هو «الحريات اولا» في اشارة تعبر عن قلقهم المتزايد ازاء ما قد ينتج عنه من «خنق للحريات» في بلد لم يتقن ابناؤه بعد ممارسة الحرية رغم الأحداث التي أعقبت الغزو عام 2003 وما تلاه من اسقاط نظام الحكم الفردي وهو ما فتح الباب على مصراعيه امامهم لممارسة حريات كثيرة كانوا يفتقدونها.
وقال الصحافي قاسم محمد مجيد الذي شارك في تجمع ساحة الفردوس «جئنا هنا لا لنعترض على غلق محل للخمور او غلق ناد ليلي. الموضوع اكبر من هذا بكثير. ما نخشاه هو ان هذا التضييق سيكون جزءا من تضييق اكبر باتجاه خنق الحريات او انه مقدمة لقرارات مستقبلية اخطر ستنتهي بجعل الانسان العراقي يعيش حالة من الخوف شبيهة بتلك التي كنا نعيشها قبل العام 2003».
واضاف «ما يجري في الحقيقة هو مخطط يهدف الى اسلمة المجتمع لكن ليس بمفهوم الاسلام وإنما بمفهوم الاحزاب الدينية التي هيمنت على المشهد السياسي في العراق بعد العام 2003. هم يحاولون فرض مفهوم الاسلام المتشدد وكما يفهمونه هم».
قرار مجلس محافظة بغداد لم يكن الوحيد في هذا الاطار بل انه تزامن مع قرارات اخرى مماثلة منها قيام السلطات في محافظة البصرة الجنوبية باصدار اوامر الشهر الماضي بغلق سيرك اجنبي كان الاول من نوعه الذي تستضيفه المحافظة منذ عقود.
وحدث ذلك بعد ايام معدودة من افتتاحه. السلطات قالت ان قرار الغلق كان بسبب فعاليات «تخدش الحياء» وانه يقدم فقرات تتعارض مع «الذوق العام والشريعة الاسلامية».
وفي محافظة بابل الجنوبية امرت السلطات المحلية في شهر سبتمبر منظمي مهرجان بابل الدولي والذي اعتادت المحافظة على استضافته لسنين طويلة بإنهاء المهرجان بعد فترة قصيرة من افتتاحه لأنه يتضمن فقرات راقصة.
وقال حازم النعيمي المحلل السياسي «ما يجري هو اجراءات لمسار طبيعي عندما تسيطر احزاب دينية على السلطة».
واضاف «دائما الاحزاب الدينية تبدأ بطروحات تحاول من خلالها كسب الناس البسطاء. لكن ما ان تسيطر على السلطة وتتمكن من القرار حتى تبدأ باتخاذ اجراءات لتصل الى ما وصلت اليه دول اخرى في ايران او افغانستان على سبيل المثال».
اجراءات بعض مجالس المحافظات رافقتها ايضا خطوات اخرى لمجموعات منظمة لا احد يعرف انتماءاتها كانت ترغم الناس على اتباع ما تراه هي مناسبا.
وقالت سهام الزبيدي (40 عاما) وهي صاحبة محل لتصفيف الشعر ان اشخاصا «كانوا يرتدون البدلات» ارغموها قبل ايام على غلق محلها في بغداد لمدة شهرين لحين الانتهاء من مراسم إحياء الشيعة لذكرى عاشوراء.
وأضافت بعصبية «هذه دكتاتورية جديدة. انا لا اعرف من هم وخفت ان اسألهم. هؤلاء يريدون ان يحولوا العراق الى دولة اسلامية متشددة. وهذا ليس عدلا لان العراق فيه تعددية وتنوع ديني. هذه افكار مستوردة وليست عراقية». واضافت «يمكن تقول لي كيف سأعيش خلال هذين الشهرين انا وعائلتي؟ انا مطلوب مني ان اوفر راتبا لعاملات يعملن عندي وان ادفع ايجار المحل. كيف سأوفر كل هذا؟ وما علاقة الدين والشعائر الدينية بغلق محل للتصفيف؟» واشتكت طالبة من معهد الفنون الجميلة في بغداد من قيام بعض مسؤولي المعهد بمنع الطالبات من ارتداء الملابس القصيرة او حتى ارتداء قمصان بنصف كم.
وقالت طالبة اشترطت عدم ذكر اسمها خوفا: ان احد المسؤولين «وضع علامة x بقلم الماجيك الاسود» على قدم احدى زميلاتها لأنها كانت ترتدي تنورة قصيرة.
وأضافت «يهددوننا.. اي طالبة ترتدي تنورة قصيرة او قميص نصف كم او تضع المكياج سيتم اعتبارها غائبة في ذلك اليوم».
وقال مدرس في المعهد طلب هو الآخر عدم ذكر اسمه ان مجموعة جاءت الى المعهد قبل ايام «وامرت» بإزالة التماثيل المنتشرة في باحة المعهد. وقال «قالوا لنا ارفعوا هذه التماثيل بحجة ان قسما منها عراة وحرام وضع مثل هذه التماثيل بهذه الوضعية».
هذه الاجراءات هي التي دفعت المئات من العراقيين من التيار الليبرالي للتظاهر قبل اكثر من اسبوع في شارع المتنبي احد اهم شوارع العاصمة احتجاجا على ما يجري. ورفع المتظاهرون لافتات ووصفوا قرار مجلس المحافظة واجراءاته بانها «متخلفة وظلامية تحاول اعادة العراق الى الوراء» وهو ما دفع رئيس مجلس محافظة بغداد كامل الزيدي الى وصف هؤلاء المتظاهرين في تعليقات تلفزيونية بأنهم «نفر من المأجورين» يحاولون زعزعة المجتمع العراقي.
وقال صبار الساعدي عضو مجلس محافظة بغداد ورئيس اللجنة القانونية فيه «اي تصرف من شأنه خدش الحياء غير مسموح به. وكل شيء يتنافى مع الاخلاق العامة غير مسموح به سواء كان سيركا او غيره».
واضاف ان الاحداث التي شهدتها بغداد وغيرها من المحافظات «وإن جاءت متزامنة لكني اؤكد انها غير متفق عليها».
وانبرى العديد من رجال الدين للدفاع عن قرار مجلس محافظة بغداد مطالبين الحكومة المركزية باتخاذ كل ما من شأنه «الحفاظ على هوية العراق الاسلامية».
وطالب رجل الدين صدر الدين القبنجي وهو من المجلس الاعلى الاسلامي العراقي المعترضين باحترام هوية العراق وقال في خطبة الجمعة بمدينة النجف الجنوبية إن على تلك المجموعات والكتل أن تتعرف على هوية العراق الإسلامية «وان الدستور يقول ان العراق يقوم على أساس الهوية الإسلامية». واضاف «الدولة مسؤولة عن تطبيق القانون والدفاع عن الهوية الإسلامية».
وكان المئات من اتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر قد تظاهروا يوم الجمعة تأييدا لدعوة اطلقها الصدر لإظهار التأييد لقرار مجلس محافظة بغداد.
وقال الصدر في بيان له وهو يحث اتباعه على التظاهر «الدين يستصرخكم والوطن يناديكم والحوزة تأمركم بالخروج من اجل دعم غلق البارات ومحال بيع الخمور والوقوف ضد مريدي انتشار الفساد والسكر والادمان لجر العراق للجهل والفسق والفجور لتكون مجتمعاتنا منحلة كانحلال الغرب».