عشرات من ممثلي وسائل الإعلام الأجنبية يتوافدون كل يوم على مدينة سيدي بوزيد في مشهد غير مألوف ونادر بالنسبة لأهالي المنطقة التي تعودت على الهدوء وعاشت السنوات الماضية بعيدا عن الأضواء.
لكن المدينة تحولت إلى مقصد للإعلاميين منذ أن أقدم الشاب محمد البوعزيزي في ديسمبر الماضي على حرق نفسه، ما أدى إلى وقوع اشتباكات ومظاهرات دامت أكثر من شهر، وانتهت بتخلي الرئيس زين العابدين بن علي عن الحكم.
وقالت وكالة الانباء التونسية في تقرير لها انه في كل مكان، شارعا كان أم مقهى، تعترض أحد الصحافيين الأجانب حاملا على كتفه كاميرا أو في يديه ميكروفون ويطلب منك في أغلب الأحيان تصريحا حول الأوضاع التي شهدتها وتشهدها مدينة سيدي بوزيد.
وتعد ساحة البوعزيزي نقطة انطلاق كل ممثلي هذه القنوات التي بعثت بمراسليها من القارات الخمس.
ففي هذه الساحة التي لا تخلو من الزائرين إلا في الساعات الأخيرة من الليل، يجد الإعلاميون ضالتهم: مطالب شعبية موثقة وعشرات يروون قصة الشهيد البوعزيزي إلى جانب ممثلي مختلف الأحزاب السياسية بالجهة.
كما يستقي الإعلاميون المعلومات من منزل الشهيد محمد حيث يرصدون شهادات حية من والدته وإخوته وأصدقائه وجيرانه ثم من شوارع المدينة ومقاهيها بما يمكنهم من متابعة المستجدات والظفر بالسبق الإعلامي بناء على نبض الشارع.
وقد عبر عدد من هؤلاء الزوار عن رغبتهم في إنجاز أفلام وثائقية تؤرخ لمختلف مراحل الثورة التي شهدتها تونس بصفة عامة وسيدي بوزيد خاصة فيما أكد آخرون أنهم جاءوا كي ينقلوا إلى العالم الصورة المغايرة التي أضحت عليها تونس، صورة الانتفاضة ضد سنوات من الظلم والقهر وكي يعيشوا مع الأهالي اللحظات الأولى في بناء الدولة الجديدة.
ولكن مع هذه الحركة الكبرى بقي إعلاميو المنطقة نفسها خارج المشهد ولم يستطيعوا القيام بدورهم بسبب رفضهم من قبل المواطنين الذين لم يغفروا لهم صمتهم وعدم إبلاغ أصواتهم ومشاغلهم إلى الجهات المعنية في العهد السابق.
ويؤكد عدد من إعلاميي سيدي بوزيد في المقابل أنهم «أضحوا في قلق متزايد على وضعهم وفقدوا الأمان مع تعالي العديد من الأصوات المطالبة بمحاسبتهم على ذنب لم يقترفوه».
وقالوا إنهم «كانوا بين المطرقة والسندان حيث كانوا مطالبين بكشف الحقائق وهو ما لم يكن ممكنا آنذاك».
ويشعر كثير من الإعلاميين المحليين بالألم «لأنهم يعتبرون أنفسهم الأقدر على نقل الصورة الصحيحة لتطور الأحداث في الجهة وعلى تحسس مشاغل المواطن وتطلعاته وإيصال وجهات النظر والإعلان عن الطرق الصحيحة لمواجهة الأزمة».
وقد أكدوا «أنهم عاشوا وسط الثورة وشاهدوا الأسباب الأولى لانطلاقها كما عانوا ويلات وتهديدات النظام السابق». ويطالب أهالي سيدي بوزيد بإعلام نزيه ومستقل يثقون فيه وبحسب الكثيرين منهم فإن الإعلام «فقد مصداقيته ولن يستطيع استعادتها بسهولة».
وأجرت وكالة الانباء التونسية تحقيقا عن (الشهيد الرمز) محمد البوعزيزى، الذى غير مجرى تاريخ تونس، كما وصفته الوكالة الرسمية. وقالت في تحقيقها من بلدة البوعزيزى في ولاية سيدي بوزيد الواقعة وسط تونس والتى كان يعرف عنها بأنها كانت مهمشة الى أن وقعت الواقعة: «كان يوم الجمعة 17 ديسمبر الماضي غير عادي بالمرة بالنسبة لأسرة الشاب محمد البوعزيزي، بائع الخضار المتجول الذي يقطن بحي النور من ولاية سيدي بوزيد.
فقد أقدم ابنها على الانتحار حرقا أمام مقر الولاية بعد تعرضه لإهانات ومضايقات من أعوان التراتيب البلدية».
لم يكن يخطر ببال عائلة محمد البوعزيزي الذي يبلغ من العمر 26 سنة (ولد في 29 مارس 1984) إنه سيقدم ذاك اليوم على ما أقدم عليه ذلك أنه خرج في الصباح الباكر على عادته لممارسة عمله اليومي المتمثل في بيع الخضر والغلال على متن عربة يدفعها بيده، إلا أن ما تعرض إليه من مضايقات من قبل أعوان التراتيب البلدية الذين قاموا في مرحلة أولى بحجز ما لديه من منتجات استرجعها منهم فيما بعد خاله، ثم أقدموا على تعنيفه وضربه وبعثرة عربته في مرحلة ثانية قد دفعه إلى التوجه إلى الكاتب العام للبلدية الذي طرده بكل قسوة.
لكن البوعزيزي شعر بالإهانة والظلم فحاول مقابلة الوالي لشرح وضعه واطلاعه على ما تعرض إليه من تعسف وإذلال إلا أنه منع من ذلك وأمام هذه المحاولات اليائسة والأبواب التي صدت جميعها في وجهه لم يجد من ملاذ الا إضرام النار في جسده احتجاجا على الإساءات التي لحقته ليلفظ أنفاسه في مستشفى بن عروس للحروق البليغة لاحقا رغم كل الجهود التي بذلت لإنقاذه.
والشهيد محمد البوعزيزي، كما حرصت وكالة الانباء التونسية على وصفه، يعيش في عائلة تتكون من 7 أفراد وفي منزل بسيط مازالت أشغال بنائه لم تنته بعد.
وقد توفي والده وهو في الثالثة من عمره ليجد نفسه مضطرا لتحمل مسؤوليات تتخطى سنه آنذاك كي يساعد والدته على إعالة إخوته وتربيتهم وتعليمهم.
وتؤكد والدة البوعزيزي السيدة منوبية أن العائلة كانت قانعة بنصيبها تجاهد من أجل لقمة العيش في كنف الكرامة وعزة النفس، مضيفة انها «لم تستجد أي مسؤول ولم تحتج أبدا على وضعها، فقد كان هدفها تربية أبنائها وتلبية احتياجاتهم في حدود الإمكان».
وكان البوعزيزي محبوبا من الجميع اذ تعود على الصبر منذ صغره وتحمل أعباء إخوته مكرسا كل جهده ووقته في سبيل العائلة.
غايته كانت تدريس أخواته البنات اللائي انقطع من أجلهن عن التعليم، وحول لقائها بالرئيس السابق تقول والدة البوعزيزي إنها طالبته بمحاكمة من أساء لابنها ودفعه إلى الانتحار بدءا بمسؤولي البلدية مرورا بالحارس الذي منعه من الدخول إلى مقر الولاية وصولا إلى مسؤولي الولاية.
وأكدت له استعداد العائلة لتقديم المزيد من «الشهداء» إلى حين محاكمة من تسببوا في موت ابنها محمد ورفضها رغبة الصلح التي بلغتها عن طريق إحدى أقارب عون التراتيب المتسببة في لجوئه إلى الانتحار.
وعبرت السيدة منوبية عن استيائها لغياب المسؤولين والإعلاميين التونسيين الذين لم يزوروها ولم يقدموا لها التعزية في حين تتالت منذ مصرع ابنها زيارات ممثلي وسائل الإعلام الأجنبية من مختلف بلدان العالم التي أبرق لها البعض منها بالتعازي.