-
لماذا لم يسمها معارضوها بانتفاضة «شاي العروسة» أو حتى «الكشري»؟!
ذعار الرشيدي
«ثورة الكنتاكي» هكذا وصف المحبطون ثورة الشباب المصري، وقالوا ـ استغفر الله عما قالوا ويقولون ـ ان الشباب المتظاهرين المرابطين في ميدان التحرير ما جلسوا كل تلك الأيام المتواصلة لولا ان هناك من يمدهم يوميا بـ «وجبة كنتاكي» و50 جنيها لكل شاب، ومن جلس بين الشباب واستمع الى أحاديث سمرهم في آخر الليل يعرف تماما ان الكولونيل كنتاكي لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بثورتهم، من سار بينهم وشاركهم الشاي الكشري الساخن يعرف يقينا ان من رماهم بتلك التهمة ليس بأكثر من أجير يملأ الإفك رئتي الهواء الذي يحمل سهام حروف اتهاماته الجائرة.
من شاركهم المسير والمزاح واطلع عن كثب على أحلامهم ليس كمن ظل يراقب من خلف شاشات التلفزيون يحلل وينظر ويطرح ويقسم مدافعا اما عن مصالحه او حاسدا راغبا في التقليل من شأن شباب الـ «فيـــس بــوك» والـ «تويتر» الذين قاموا بثورة تساوي بحجمها 20 ثورة مما يعد العرب في تاريخهم.
مشارك عيان
كنت شاهد عيان، أو بالأصح مشارك عيان في ميدان التحرير على مدار 9 أيام، وحده يوم «أربعاء الجمل» لم أحضره، شاهدت بأم عيني كيف سقط الخوف من فوق صدور شباب اعتصموا في ميدان التحرير، كيف تحطمت أصنام الرعب من زوار الفجر على سواعدهم التي حملت جملا ما كان يجرؤ أكبر معارض عربي أن يقولها قبل 25 من يناير، وكيف تجاوز الشباب المصري بأحلامه البسيطة جدار برليف الخوف من الملاحقة المحتملة للأجهزة الأمنية وشبه الأمنية، لم أر في حياتي كلها بريق أمل كالذي رأيته في أعين شباب ميدان التحرير ولا أعتقد انني سأرى ذلك البريق في أي مكان آخر، كان بريقا أشبه ببريق عيني العاشق لحظة رؤيته عيني محبوبته، كانت تبرق أعين شباب ميدان التحرير بحب وطنهم.
من اتهمهم بأنهم طلاب سلطة فليستمع على أرض ميدان التحرير بعيدا عن فلترة أهواء الفضائيات «المتشفية» او انتقائية القنوات الفضائية «الموالية» او حتى تلك التي اختارت نقل الحياد وأنى لها الحياد في زمن إما ان تقف على الجانب الأسود او الجانب الأبيض.
تهمة أمن دولة
«مش عايز حاجة.. عايز بلدي أحسن بلد في الدنيا» جملة احد الشبان الذين تحدثت معهم، هل يا ترى هناك ثمة تهمة وراء الرغبة في ان يكون بلدك افضل بلدان العالم؟ لا، ولكن المرجفين والذين يعشش الخوف في قلوبهم يعتبرون ذلك تهمة أمن دولة.
خسرانة.. خسرانة
«قال ضربوا الأعور على عينه.. قال خسرانة خسرانة» هكذا قال شاب آخر، موضحا وببساطة يعجز عن فهمها الساسة «5 سنوات بلا عمل ومطلوب للتجنيد وأحمل شهادة جامعية وأعمل بنظام الساعات والبقشيش في مطعم 4 نجوم.. هنا لا أريد ان «أحوّش» ولا ان أبني بيت الزوجية بل أريد ان أبني وطنا».
ملايين الأطفال.. في الميدان
ياسر الذي يحمل ابنه (5 سنوات) وعبت عليه احضاره لصغيره وسط الميدان وهو يرفع لافتة تندد بالتغييرات التي أجرتها الحكومة المصرية بعد المظاهرات فقال: «لم آت من أجل نفسي بل جئت من أجل ابني الصغير مصطفى ومن أجل ملايين الأطفال في مصر لتكون بلدهم أفضل، أما أنا فراحت عليّ».
ذوات.. وفقراء
عبدالعزيز الجمل يحمل عوده ويغني في حب مصر وأحيانا يؤلف موسيقى خاصة للشعارات المنددة بالنظام، يبتسم قائلا وهو يكافح لفحة البرد القادمة بالاختباء وسط بطانية رماها فوقه أحد أصدقائه: «عندما جئت الى هنا يوم 25 يناير كنت أعرف 5 من أصدقائي معرفة شخصية وأتواصل مع أكثر من 200 شخص عبر الـ «فيس بوك»، وجدت أغلبهم هنا، هنا تجد الخريج وطالب سنة أولى والمهندس والطبيب ونصف المتعلم، هنا تجد ربة منزل وتجد شابة حضرت من تلقاء نفسها، هنا عرفتهم وعرفت أسماء بعضهم الحقيقية، هنا ابن الذوات وهنا ابن الأسرة المتوسطة وهنا أيضا ابن الفقراء، وحّدنا وجمعنا حب هذه الأرض».
ماكدونالدز
السائر في ميدان التحرير بين المتظاهرين على هدى او على غير هدى سيان، كلاهما سيصطدم بحقيقة واحدة ان 90% حضروا بدوافع ذاتية، وهنا أتحدث عن أيام 25 و26 و27 وما بعد «أربعاء الجمل»، لا قوى محركة أجنبية، وحتما لم يكن هناك كنتاكي ولا ماكدونالدز.
من لم ينزل الى الميدان بدافع ذاتي فسيجد حقيقة أخرى هو ان الميدان لم تحتله مجموعة شبابية واحدة، بل اكثر من 25 مجموعة التأمت بعضها مع بعض لرأب صدع جراح بلدهم، ولا أتحدث هنا عمن جاء وركب موجة اعتصامهم من الاخوان المسلمين، رغم ان الاخوان المسلمين في رأيي هم مجموعة واحــــدة من بين المجموعــــات الـ 25 الأخرى، ولهم كل الحق في الخروج والتظاهر واحتلال جزء من الميدان.
سوق سياسي.. غريب
ميدان التحرير تم توزيعه بشكل عرضي وعشوائي بين المجموعات الشبابية التي جاءت لتحتله في سبيل تحرير وطنها، تماما كما لو أنك تشاهد سوقا مفتوحة، الكل قرر ان يعرض بضاعته على مرأى ومسمع من العالم أجمع، لا أحد يجترئ على مساحة أحد وفق اتفاق غير مكتوب او حتى محكي والغالبية خاصة المرابطين باتوا يعرفون بعضهم البعض بالملامح، دون الأسماء.
كنتاكي.. وشاي العروسة
أما من أين جاءت حكاية الكنتاكي التي أمسك بعض الإعلاميين ومفوهي الفضائيات وبدأ ينسج حولها قصص المؤامرات الغربية، فأصلها ان كل شخص كان يتبرع بما يستطيع ان يأتي فهناك من كان يحضر الشاي لمجموعته بل ويقوم في معظم الأحيان بتوزيعه على كل من يطوف في الميدان وأغلبه كان من ماركة «شاي العروسة»، ولا أعرف لماذا لم يقولوا انها كانت ثورة «شاي العروسة» وليست ثورة «كنتاكي»، ومن بين الشباب من أبناء الذوات من كان يحمل على عاتقه التكفل بغداء وعشاء زملائه، وأحيانا كان يحضر وجبات «كنتاكي» وكان ذلك الخيط الذي انطلقت منه أسطورة مفوهي السلطة بأنها ثورة الكولونيل كنتاكي، لم أجد خيطا سوى ذلك الخيط.
الـ «واتساب» والـ «بي بي» كانا محرضين أيضا
فات كثيرا من الحرس القديم من الإعلاميين ان الـ «فيس بوك» والـ «تويتر» لم يكونا وحدهما هما الحاضرين للدعوات العامة المفتوحة لعرس ميدان التحرير، بل كان هناك موقع الصور الأكثر شهرة «الفيلكر»، وان كان أقل تأثيرا من وصول الدعوات، وكان هناك برنامج الـ «واتساب» على أجهزة الـ «آي فون» والـ «بي بي ماسنجر» على أجهزة «البلاك بيري» والتي كانت تحمل ايضا بداخلها مختصر برامج الـ «تويتر» والـ «فيس بوك» وغيرها من برامج التواصل الاجتماعي، عرفت كل هذا بعد ان بدأ الجميع يتذمرون من انقطاع الاتصالات عن أجهزتهم النقالة.
انها ثورة خرجت من رحم العالم الافتراضي وفرضت وجودها على العالم الواقعي وأصبحت سيدة المشهد الاخباري العالمي بلا منازع، انها مصر وليست أي بلد آخر، قلب حضارة العالم وأساس استقرار الشرق الأوسط.
لم يكن شباب ميدان التحرير عابثا ولا غير مقدر لما هو مقدم عليه، وكانوا يقيسون ردود الأفعال على تظاهراتهم بالعقل أحيانا وبالرفض أحيانا كثيرة.
مصر للجميع
قيل لبعض شباب مجموعة خالد سعيد و25 يناير و6 أبريل ان الإخوان المسلمين ركبوا موجة تظاهراتكم وسرقوا مجدكم فكان الرد من أحد المشاركين الذي اختزل صورة الرأي الموحد لكل شباب ميدان التحرير هو «ييجوا.. أهلا وسهلا.. مصر للجميع ونحن مع الحق».
أغرب ما يمكن ان يشاهده السائر في ميدان التحرير هو ان المجاميع تختلف في توجهاتها ورؤاها بل وحتى في طريقة تعاطيها، انما اتفقوا على انـــه لا عودة لما قبل 25 يناير، ولم تكن هذه الحملة محفوظة الحقوق لأي من السياسيين الذين دأبوا على تكرارها كثيرا في الفضائيات وخطاباتهم، بل جاءت من قلب صدور شباب آمن بوطنه وهم أول من قالها وأحق الناس بها.
ثورة ضد الفساد
رغم الحدة في الشعارات التي أطلقها الشباب وجاب بها المتظاهرون ميدان التحرير الا ان الرفض لم يكن لشخص مبارك، وتستطيع ان تستشف هذا ببساطة، فلم تخالط شعاراتهم المنادية برحيله قلة أدب، والأهم من هذا كله انهم كانوا يرفضون الفساد الذي التهم خيرات ومقدرات بلدهم وحرمهم منها وقصرها على فئة محددة، ولم تكن ثورتهم ثورة جياع ضد برجوازيين، بل ثورة شرفاء ضد مجموعة من اللصوص، لم يكونوا شيوعيين يؤمنون بضرورة توزيع الثروة وتأميم الشركات بل كانوا مع إعادة ما سرقه اللصوص واعادته الى خزائن بلدهم التي عبث بها قلة استحلوا عرق أولئك الشباب ومصوا دماء الأجيال السابقة وتركوا الجيل الحالي بلا حاضر يذكر ولا مستقبل يخبر، فكانت ثورتهم وكان صوت الحق معهم.
الحقيقتان الغائبتان الحاضرتان
بقي ان نقول شيئا محددا ملموسا من ارض الميدان وبعيدا عن كل التقارير الاخبارية. كان المتظاهرون يعلمون حقيقتين رغم محاولة كثير منهم عدم الخوض فيهما ان الرئيس مبارك الذي يطالبون برحيله هو القائد الفعلي للجيش، وهو الذي حال شخصيا دون تورط الجيش، والحقيقة الثانية انهم يعلمون ان حسني مبارك لم يطلق ولم يأمر بأحداث أربعاء الجمل، وان بقايا رحلت من الفاسدين تحاول توريط النظام لسحق الشباب وإحداث فتنة، حقيقتان غائبتان حاضرتان في ذهن شباب ميدان التحرير، ولكن أيادي أحلامهم طاولت عنان السماء.