بعد شبه جزيرة القرم سيطرت قوات موالية للروس على مدينة دونتسك في شرق أوكرانيا وطلبت من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إرسال قواته وإجراء استفتاء عام يعلن انضمامها إلى روسيا.
والواقع ان سيطرة قوات منشقة موالية لروسيا على المكاتب المحلية في دونتسك يشبه حرفيا السيناريو الذي حصل في القرم، فقد دعا هؤلاء الى استقلال المنطقة عن أوكرانيا والى استفتاء عام للانضمام الى روسيا.
وعلى الرغم من التشابه الكبير بين الأحداث الأخيرة التي حصلت في دونتسك وما جرى في شبه جزيرة القرم، فإن ثمة اختلافا كبيرا بين هذا وتلك.
فقد كانت القرم جزءا من روسيا طوال مئات السنين ولم تنضم الى أوكرانيا إلا عام 1954، ونصف سكان القرم يتحدثون اللغة الروسية، ونحو 60% هم من الروس.
بينما تأسست دونتسك عام 1869 على يد رجل أعمال إنجليزي، وخلال فترة قصيرة عام 1918 بعد الحرب الأهلية الروسية كانت جمهورية سوفييتية، لكنها مذذاك كانت جزءا من أوكرانيا.
وبينما هناك في وسط المدينة أكثرية روسية ضئيلة (48.15% من الروس في مقابل 46.65% من الأوكرانيين)، ثمة في باقي الإقليم غالبية أوكرانية واضحة (56% أوكرانيون، في مقابل 38.2% روس).
والدولة الأوكرانية اليوم على شفير الفوضى والحرب الأهلية، وذلك بعد سيطرة كوماندوس من المسلحين المقنعين والمدربين على المباني الحكومية وعلى مراكز الشرطة من دون أي مقاومة تذكر، كما استولوا على مخازن السلاح ووزعوه على الناس، في مواجهة هذا الوضع المأساوي الذي هو مزيج من التخطيط الروسي والدينامية المحلية، تبدو السلطات في كييف عاجزة عن اللحاق بالأحداث.
فهي لا تملك جيشا حقيقيا، ولا تستطيع الاعتماد على الدعم العسكري الغربي، كما لا يمكنها الوثوق بولاء قواتها الأمنية ولا الشرطة.
وفي الواقع تدفع كييف ثمن تسلل روسيا الى أجهزتها الأمنية ونفوذ القوى الإقطاعية المحلية.
فإلى أي مدى تستطيع موسكو أن تفعل ما تشاء من غير أن يرد أحد عليها؟
لا يمكن لروسيا أن تتساهل وأن تظهر مؤشرات ضعف في أوكرانيا التي تشكل، ولاسيما في الجزء الشرقي منها، امتدادا طبيعيا للجزء الغربي من روسيا الذي يحتضن العاصمة موسكو، أوكرانيا التي تقاسمت مع روسيا في القرن الماضي نواة الاتحاد السوفييتي.
ولذلك فإن روسيا التي بنت سياستها منذ الغزو الأميركي للعراق وصولا الى أحداث ليبيا وسورية على مبدأ رفض التدخل العسكري الخارجي واحترام القانون الدولي، تجد نفسها مضطرة للتدخل وخرق القانون الدولي في أوكرانيا لأن ما يحدث في هذه الدولة يشكل تهديدا مباشرا لمصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولأن الأسباب والعوامل الاستراتيجية التي تدفعها للتدخل على حدودها وفي بلد يدخل في صلب أمنها القومي تفوق بدرجات الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى التدخل في بلدان بعيدة عنها مثل أفغانستان والعراق.
وتعرف موسكو أن تدخلها العسكري المباشر على غرار ما حصل في جورجيا عام 2008 دونه مخاطر ومحاذير، فلا أوكرانيا بحجمها الجغرافي والسكاني مثل جورجيا، ولا الظروف الدولية تسمح بمغامرات عسكرية في قلب أوروبا التي سترد وستلجأ الى شتى أنواع الضغوط والعقوبات الاقتصادية والتجارية، ولكن حتى في ظل هذه المخاطر وفي ظل المشاكل التي تعانيها المؤسسة العسكرية الروسية، بحيث انها لا ترقى بقدراتها الى المؤسسة الأميركية وحلف الأطلسي، فإن موسكو لا يمكنها أن تسلم بالوضع الجديد في كييف ولديها الأوراق التي تلعبها لإبقاء أوكرانيا على صفيح ساخن تواجه خطر التقسيم والحرب الأهلية وتشكل مصدر تهديد لاستقرار أوروبا.
ربما تكون روسيا بنت حساباتها على أساس أن التدخل العسكري المضاد من جهة أوروبا والولايات المتحدة لن يحصل، وأن الغرب رغم كل الاحتجاجات التي تصدر عنه سيسلم بالأمر الواقع عاجلا أو آجلا وسيعود الى التعاون التجاري مع روسيا.
وهناك سابقة شهيرة يمكن أخذها في الاعتبار عندما انفصل إقليما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المواليان لموسكو عن جورجيا وتحدت موسكو العالم باعترافها باستقلال هذين الإقليميين.
منذ ان سيطرت القوات الروسية على القرم، اعترف مساعدو الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن رد الاحتلال سيكون صعبا، إن لم يكن مستحيلا، على المدى القريب، وركزوا على عدم اتخاذ خطوات تصعيدية لسد الطريق أمام بوتين من المضي قدما.
وإذا استمر حصار جزيرة القرم خلال الأسابيع المقبلة، فإن الأمر سيتطلب جهدا منسقا لإجبار روسيا على سحب قواتها، تلك المحاولة التي يمكن أن تؤدي إلى انفصال الولايات المتحدة عن حلفائها الأوروبيين الذين قد يبدون أكثر رغبة في التعايش مع الواقع الجديد.
والمفارقة البارزة في هذه المواجهة هي انكشاف الاتحاد الأوروبي بصفته الطرف الأكثر ترددا.
ومن الواضح أن الغرب يعمل على «خيارات غير عسكرية»: الأولوية لديه هو الحل السياسي عبر مفاوضات مباشرة بين موسكو وكييف لنزع فتيل الأزمة على قاعدة الاحترام الروسي للسيادة الأوكرانية والاعتراف الأوكراني بالمصالح الروسية.
فإذا لم تنخرط موسكو في الحل السياسي، فإن لائحة العقوبات السياسية والاقتصادية جاهزة مع تحريك جزئي محتمل للورقة العسكرية عبر نشر قوات الأطلسي في شرق أوروبا تكون جاهزة للتدخل إذا دعت الحاجة.