شارك الرئيس فلاديمير بوتين شخصيا في قمة الـ 20 التي انعقدت أخيرا في أستراليا لثلاثة أسباب: الأول تكتيكي يرتكز على الاستمرار في نهج التعبير للغرب عن توجهات ما وتطبيق عكسها ميدانيا، والثاني سياسي لأن روسيا تشعر بوضعية مريحة تتيحها لها كلمتها المسموعة لدى نظامي إيران وسورية وبالتالي لها تأثيرها في ملفين من أكثر الملفات الشائكة حاليا أي الملف النووي الإيراني والأزمة السورية، أما السبب الثالث فهو مشاركة حلفاء روسيا الاقتصاديين الذين يعول الكرملين عليهم في تخفيف وطأة العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي.
ولم يكن انسحاب بوتين المبكر من القمة مفاجئا لأنه رسم مسبقا تحركاته وخططه المستقبلية اقتصاديا وعسكريا، واتخذ قرارا لا رجوع فيه بإدارة ظهره الى الغرب واعتماد أصدقاء وحلفاء في الشرق، وشرع منذ مطلع العام الحالي بسياسة توسعية أخطبوطية التهمت شبه جزيرة القرم وبدأت بالإجهاز على أبخازيا وأقاليم شرق أوكرانيا على مرأى من شعوب العالم بما في ذلك شعبا أوكرانيا وجورجيا.
سياسيا، أراد بوتين الوقوف على آخر اجواء التنسيق الاستراتيجي بشأن ملفي النووي الإيراني والأزمة السورية بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها بالشرق الاوسط المشاركين في القمة.
أما اقتصاديا، فقد شكلت قمة العشرين فرصة لبوتين للقاء حلفائه الاقتصاديين الرئيسيين كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وخاصة أن العقوبات الغربية تحتم عليه تعزيز علاقاته الاقتصادية مع تلك البلدان وفتح أسواق لروسيا تعوضها عن الأسواق التي أقفلها الغرب في وجهها.
وقرر الرئيس الروسي مغادرة القمة قبل موعد انتهائها ليس بسبب شعوره بالعزلة، إنما بسبب رغبته في إعلان عدم حاجة روسيا لدول الغرب، ولو كانت القمة عقدت في أي من الدول الصديقة لروسيا لأطال بوتين مدة إقامته فيها الى ما بعد القمة.
إذن، فالرئيس الروسي حسم خياراته بشأن المستقبل وحدد تحالفاته الاقتصادية التي تخوله الاستمرار في سياساته التوسعية المنتهكة لسيادة واستقلال الدول المجاورة لبلاده. وما الصفقات الأخيرة التي أبرمها الروس مع الصين وإيران للتعاون الاقتصادي والنووي وإعلان موسكو عن قرب بناء جيش روسي ـ أبخازي مشترك في أبخازيا الجورجية سوى دلالات واضحة على أن بوتين عازم على المضي في طريق توسعي لا رجوع فيه.
وفي رسالته السنوية أمام مجلسي «الدوما» (النواب) و«الفيدرالية» (الشيوخ)، في البرلمان أكد بوتين أن بلاده «لن تهزم» في المواجهة المفروضة عليها من الغرب، و«لن تسمح لأي طرف بتحقيق تفوق عسكري عليها». وانتقد مساعي الولايات المتحدة لتطويق روسيا والتدخل في شؤونها، متحدثا عن محاولات لفرض «ستار فولاذي» جديد حول بلاده التي أكد أنها «لن تعزل نفسها، ولن تقطع علاقاتها مع الغرب، لكنها ستوسع حضورها في المناطق التي تتنامى فيها عمليات التكامل، والتي لا تتداخل فيها الشؤون السياسية والاقتصادية»، مشيرا إلى أفريقيا وبلدان أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، إضافة إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ التي تشهد تطورا سريعا في العقود الأخيرة.
وقال ان «روسيا باعتبارها قوة عظمى في منطقة المحيط الهادئ ستستفيد من الإمكانات الهائلة المتوافرة هناك».
وكشف بوتين، في رسالته السنوية إلى الجمعية الاتحادية الروسية، جميع اوراقه. تحدث عن نقاط قوة بلاده، ونقاط ضعفها، وحدد أهداف موسكو الاستراتيجية، بلا غموض. ولدى روسيا نقاط قوة أساسية: بلاد شاسعة المساحة والثروات، و3 صناعات على مستوى عالمي: الطاقة، بما فيها الطاقة النووية، والفضاء، والسلاح الذي أثبت تفوقه الكاسح في القرن العشرين، بالإضافة إلى قاعدة تقنية ـ صناعية لم يجر، بعد، استغلالها للمنافسة الدولية.
وهذه أولى نقاط الضعف الروسي، بالإضافة إلى الندرة السكانية وصغر حجم قوة العمل بالنسبة إلى المساحة والامكانات، ومشكلات الزراعة، وضعف التنوع الاقتصادي، وهيمنة الدولار الأميركي على المبادلات الدولية والنظام المصرفي العالمي. وهناك، لدى القيادة الروسية، حلول استراتيجية لنقاط الضعف: الانفتاح والشراكة والمقايضة.
ولا تنوي روسيا الانعزال عن الولايات المتحدة والغرب، لكن بوتين رسم خريطة طموحة للشراكة الاقتصادية: آسيا والمحيط الهادي، أفريقيا، أميركا اللاتينية، والشرق الأوسط. فالعالم أكبر كثيرا من الغرب، والاقتصادات الناشئة لديها ما تربحه فعلا من شراكة ندية مع الروس.
ولا تسعى روسيا إلى إفشال العقوبات الغربية فقط، ولكنها تطرح تصورا عمليا غير مؤدلج ولا مسيسا لتقويض أسس الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي. وهذا هو التحدي الرئيسي للقرن الحادي والعشرين، تحدي التعددية السياسية والاقتصادية وسيادة القانون الدولي.
هل يمكن العالم اليوم الاستغناء عن روسيا؟ وهل روسيا، في ظل مستوى نموها الاقتصادي وقيمة عملتها، واعتماد المالية العامة على أسعار الطاقة العالمية، قادرة على العيش في عزلة سياسية؟ على مستوى الخطاب السياسي تبدو مستعدة وقادرة، لكن التاريخ الحديث لم يسبق له ان عرف بلدا معزولا سياسيا يحتفظ بمكانته العالمية.