تسود في بيروت توقعات متفائلة بقرب ولادة الحكومة التي طال انتظارها، في غضون أيام وقبل منتصف الجاري. وهذه الأجواء تشبه الى حد كبير ما كان حدث في يوليو الماضي عندما انطلقت عملية تشكيل الحكومة على وقع اتصالات سورية - سعودية مركزة.
اليوم يتكرر المشهد السياسي نفسه. فبعد أسابيع من التأزم والتشنج، تعود مرة واحدة أجواء الحلحلة والتفاؤل مستندة كما قبل أشهر الى تجدد الاتصالات بين سورية والسعودية، والى زيارة الرئيس د.بشار الاسد الى جدة التي خلقت دينامية جديدة في العلاقات السياسية بين السعودية وسورية وفي العلاقة الشخصية بين الأسد وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهذا لابد ان ينعكس ايجابا على الوضع في لبنان وعلى أزمته الحكومية لأن الخلاف السوري - السعودي انطلق من لبنان، وهو أول من يتلقى ارتدادات أي تقارب أو تفاهم بين البلدين. «التفاؤل المستجد والمتسعة دائرته» يستند بشكل أساسي الى التقارب وتبادل الزيارات بين القيادتين السورية والسعودية، ولكنه يستند أيضا الى جملة عوامل ومؤشرات داخلية وخارجية أبرزها:
1- الموقف الدولي الضاغط في اتجاه الاسراع في تشكيل الحكومة بعدما كان «لا مباليا» في الأشهر الماضية. ان الاهتمام الدولي بملء الفراغ الحكومي يشبه ما حصل من اهتمام قبل نحو سنتين بملء الفراغ الرئاسي عندما بدأت الأزمة تهدد بتقويض الاستقرار وحصول انهيارات دستورية وأمنية واقتصادية.
2- الأجواء المريحة التي «تظلل» عملية التأليف الثاني وسط ميل ملحوظ لدى جميع القوى الى التزام «التهدئة والمرونة»، ووسط اقرار فريق المعارضة بوجود تبدل ملحوظ في استعدادات الرئيس المكلف سعد الحريري وطريقة مقاربته للملف الحكومي.
3- بروز امكانية «كسر وتجاوز» العقدة الداخلية الأساسية المتحكمة بتشكيل الحكومة والتي كانت برزت في «التأليف الاول» وكادت ان تختزل كل الأزمة وهي عقدة «وزارة الاتصالات وتوزير جبران باسيل». وقد لعب الرئيس ميشال سليمان دورا أساسيا في تذليل هذه العقبة بدخوله على خط هذه المشكلة مرتين وعبر اشارتين: عندما تعمد قطع شريط استشارات التكليف بلقاء العماد عون وباسيل في قصر بعبدا على غداء عمل، وعندما صرح قبل أيام الى صحيفة «الحياة» وأثناء وجوده في نيويورك بأن مبدأ عدم توزير الراسبين لا نص دستوريا عليه، واذا كان هناك من أعراف بشأنه فقد خرقت أكثر من مرة، وان لا ضير في ذلك اذا كانت المصلحة الوطنية العليا تتطلب ذلك.
4- وجود مصلحة سياسية (اذا وضعنا المصلحة الوطنية جانبا) عند مختلف الأطراف لقيام حكومة جديدة: الرئيس ميشال سليمان الذي تطلع ومازال الى انطلاقة فعلية لعهده بعد الانتخابات.
الرئيس سعد الحريري الذي يتطلع الى دخول الحكم قويا ولا يريد ان «يأكل» تأخر الحكومة من قوة انتصاره الانتخابي ولا من رصيده وصدقيته. حزب الله الذي يطمح الى تثبيت الغطاء الرسمي الحكومي لدوره وسلاحه والى حماية ظهيره الداخلي وسط مرحلة اقليمية انتقالية خطرة. العماد عون الذي يريد انتزاع اعتراف سياسي بحجمه السياسي والى تثبيت موقعه بعد اجتيازه «قطوع الانتخابات» واركان 14 آذار المسيحيون (جعجع والجميل) يتطلعون عبر الحكومة الى تكريس ما أحرزوه في الانتخابات الأخيرة من تقدم.
بري وجنبلاط متفقان على الخطة السياسية للمرحلة المقبلة، ولكن تنفيذ هذه الخطة مؤجل الى ما بعد الحكومة وغير ممكن قبلها. وأما خطوطها العريضة فهي: تكريس المصالحات وأجواء التهدئة على المستويين السياسي والأمني، التقريب بين الحريري وحزب الله، التنسيق مع الرئيس سليمان ودعم دوره التوفيقي، قيادة قوة وسطية تتحكم باللعبة البرلمانية والسياسية، التحرك تحت مظلة التفاهم السوري - السعودي. رغم كل هذه المؤشرات التي توحي بقرب تشكيل الحكومة وبأن العد العكسي للخروج من المأزق قد بدأ. ورغم التفاؤل المهيمن على الأجواء، الا ان الوضع لا يخلو من علامات حذر وتحفظ بأن تضيع «فرصة أكتوبر» كما ضاعت «فرصة يوليو» وبأن يتأجل موضوع الحكومة مرة جديدة وحتى اشعار آخر، أقله حتى نهاية العام الحالي.