تميزت عملية تشكيل الحكومة في جولتها الثانية، بعد اخفاق الجولة الأولى، بأمرين:
ـ ارتفاع منسوب «الايجابية والتفاؤل» الى درجة تعكس ولادة وشيكة للحكومة وتلاشي ما كان يعترضها من عراقيل وعقبات، بما فيها «عقدة العماد عون» التي كانت عنوان الجولة الأولى، وتبدو الآن في طريقها الى التذليل والمعالجة.
ـ «المرونة» التي يظهرها الطرفان الى حد امتناعهما عن أي تصعيد سياسي أو كلامي، والى درجة توحي بانهما على عجلة من أمر الحكومة وعلى استعداد لتنازلات متبادلة و«حلول وسط» بدل التمترس خلف مواقف جامدة وسقف سياسي مرتفع.
السؤال المطروح في ختام الاستشارات الرسمية وانطلاق حركة المشاورات الكواليسية إيذانا بالدخول في مرحلة الحقائب والأسماء: هل تعكس هذه الأجواء حقيقة الوضع السياسي وتمهد لولادة الحكومة في غضون أيام وبالتزامن مع زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الى دمشق بحيث تكون الحكومة اللبنانية أولى ثمار هذه الزيارة وأولى الترجمات العملية للتقارب السوري السعودي؟ أم ان هذه «الايجابيات الطارئة» لا تعبر عن حقيقة الوضع وتدرج أكثر في سياق مناورات يتبادلها طرفا النزاع في لبنان حيث يحاول كل طرف رمي كرة التأخير والتعطيل في ملعب الطرف الآخر؟ وهل التغيير الملحوظ في التكتيك التفاوضي عند الطرفين يوازيه تغيير في الموقف السياسي وفي المطالب والشروط؟
ما يجري تداوله في الدوائر السياسية المغلقة ليس مطابقا لما يقال في العلن انما يعكس حذرا وتحفظا شديدين، فأوساط الأكثرية متوجسة من الايجابية الزائدة لدى المعارضة التي تهدف على الأرجح الى رد تهمة التعطيل عنها وتحميل الرئيس المكلف سعد الحريري مسؤولية أي تعثر أو فشل قد يطرأ مجددا، كما انها لا تلمس ترجمة عملية للكلام الايجابي عبر خطوات تصب في تسهيل مهمة الرئيس المكلف وتطلق يده وتوحي بوجود رغبة في عدم تقييد حركته في تشكيل الحكومة راهنا وفي الحكم لاحقا، وفي تقدير هذه الأوساط ان المعارضة مازالت عند مواقفها الأساسية وتريد ان تبدأ التفاوض في الحقائب والأسماء من حيث انتهت الجولة السابقة وكأن شيئا لم يحصل ولم يتغير.
أما أوساط المعارضة، فإنها مع تقديرها للتغيير الذي أدخله الحريري على نمط الاستشارات وفي اتجاه أكثر جدية وايجابية و«تواضعا»، فإنها لاتزال متوجسة من الغموض الذي يكتنف موقفه السياسي ومن خلال عدم الالتزام وترك الباب مفتوحا على كل الاحتمالات والخيارات، كما تعبر هذه الأوساط عن ـ الواضح والنهائي بصيغة 15 ـ 10 ـ 5 خشية لديها من الا يكون التقارب السوري السعودي كافيا لإنتاج حكومة جديدة ومن ان يتكرر السيناريو الأول عندما لم يكتمل التفاهم السوري - السعودي ولم يدخل حيز التنفيذ.
المعارضة حذرة في توقعاتها، فهي لا تستبعد احتمال تشكيل الحكومة قريبا ولا تهمل المعطيات الجديدة التي تدفع بهذا الاتجاه، خصوصا ما يجري على خط دمشق الرياض، كما انها لا تؤكد مثل هذا الاحتمال ولا تجزم به. وفي تقديرها ان الأمر يتوقف الآن على موقف السعودية وما اذا كانت مستعدة للتدخل لدى حلفائها واقناعهم بالسير بالحكومة بما هو متاح ومتوافر حاليا، وتقبل مقتضيات العلاقة الجديدة مع سورية مع ما يتطلبه ذلك من تجاوز وتصفية آثار المرحلة السابقة، ذلك ان سورية فعلت ما عليها وما وعدت به، فلم تتدخل في الانتخابات النيابية، ورحبت بوصول سعد الحريري الى رئاسة الحكومة وساهمت في تبلور صيغة 15 ـ 10 ـ 5 وفي تنازل المعارضة عن «الثلث المعطل»، والأمر يتوقف عند هذا الحد اذ ليست في وارد التدخل في تفاصيل حكومية متروكة للبنانيين، وليست في وارد ممارسة ضغوط اضافية على حلفائها.
وفي تقدير هذه الأوساط أيضا ان السؤال الذي يطرح في حال قررت السعودية القاء ثقلها في موضوع الحكومة وممارسة نفوذها، يتعلق بالموقف الاميركي وما اذا كان مازال على تحفظه حيال طبيعة وحجم التفاهم السوري السعودي، وما اذا كان مازال يفضل تجميد الملف اللبناني واطالة أمد الستاتيكو الراهن الى ما بعد الانتهاء وترتيب أوضاع وملفات المنطقة التي يقع الملف اللبناني في أسفلها حاليا.