عشية انتخابات رئاسية «مفصلية» في فرنسا، عاد شبح الارهاب ليخيم بقوة، حيث ارخى هجوم الشانزليزيه الارهابي بظلاله على مجمل الاجواء وعلى الحملة الانتخابية، كما ان هذا الهجوم يؤثر على المزاج الشعبي العام في انتخابات معلقة على «مزاج» الناخبين ويكتنفها الغموض حتى الساعات الاخيرة.
وتوصف هذه الانتخابات بأنها «انتخابات المفاجآت» من أول السباق الى آخره. فهي انتخابات لم يسبق لها مثيل، انتخابات سقط فيها المرشحون الكبار في الجولات التمهيدية: ساركوزي ـ جوبيه ـ فالس، انتخابات لا يترشح فيها الرئيس الفرنسي لدورة ثانية، وهذا ما يحصل للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية.
وأيضا يحصل للمرة الأولى أن من يتصدر السباق ليس من اليمين (الحزب الديغولي الذي اسمه حاليا الحزب الجمهوري) ولا من اليسار (الحزب الاشتراكي)، وإنما من خارج هذين المعسكرين التاريخيين، في مؤشر واضح الى عمق الأزمة التي تعانيها المؤسسة السياسية الحزبية في فرنسا، والى عمق التحولات الحاصلة في المجتمع الفرنسي، والتي تجعل كل المفاجآت ممكنة بما في ذلك مفاجأة أن تنحصر الجولة الثانية المقررة في مايو المقبل بين مرشحي التطرف: اليميني (لوبن) واليساري (ميلانشون).
وقد صار التنافس محصورا بأربعة مرشحين يتصدرون بشكل مستمر استطلاعات الرأي وهم: مارين لوبن مرشحة «الجبهة الوطنية» (يمين متطرف)، إيمانويل ماكرون مرشح حركة «آن مارش» (وسط)، فرنسوا فيون مرشح حزب «الجمهوريين» (يمين معتدل)، وجان لوك ميلانشون مرشح حركة «فرنسا غير الخاضعة» (يسار راديكالي).
ويحتدم السباق بين هؤلاء الأربعة الى درجة يصعب فيها تحديد الفائزين اللذين سينتقلان الى الدورة الثانية.
استطلاعات الرأي عشية الانتخابات تفيد بالتالي:
٭ لوبن وماكرون يتصدران السباق، وهما الأكثر حظا للانتقال الى الدورة الثانية. ولكن الأمر غير محسوم، ورغم أنهما متقدمان إلا أنهما سجلا تراجعا في الأسبوع الأخير وهبطا من نحو 26% الى 23%.
٭ الفارق بين المرشحين الأربعة تقلص بعدما نجح فيون وميلانشون في تحسين مركزهما ليلامسا عتبة الـ 20%.
٭ توجد كتلة كبيرة من الناخبين المترددين الذين لم يحددوا موقفا، ومن غير الممكن معرفة اتجاهات التصويت لديها إلا في يوم الانتخاب.
وهذه الكتلة كبيرة وتناهز ثلث الناخبين تقريبا، وهذا ما يجعل أن حسم النتيجة من الآن أمر صعب، وأن مجال المفاجآت يظل مفتوحا حتى اللحظة الأخيرة في ضوء عاملين مؤثرين: ارتفاع مستوى التردد في صفوف الناخبين، وارتفاع معدل الامتناع عن التصويت.
وبالنسبة للفئة المترددة التي ستلعب دورا حاسما في تحديد نتائج هذه الجولة من الانتخابات، يراهن الخبراء على معطيين: الأول تقليدي، يصدق على جميع الاستحقاقات الرئاسية. والثاني معطى مستجد، يرتقب أن يشكل واحدة من تقلبات الحملة الانتخابية الجارية.
فقد جرت العادة أن يصب تصويت الناخبين المترددين في مصلحة المرشحين، الذين يبرزون في خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية.
هؤلاء المترددون لا ينتمون إلى حزب أو تيار سياسي معين، ولا يحددون خياراتهم بناء على المعطيات الأيديولوجية التقليدية (يمين/ وسط/ يسار)، بل يتفاعلون مع الديناميكية التي تفرزها تطورات الحملة الانتخابية، ويركبون الموجة الأكثر تأثيرا في الأيام الأخيرة من الحملة.
ومن هذا المنطلق، يعتقد الخبراء أن المستفيد الأكبر من ظاهرة الناخبين المترددين سيكون بلا منازع جان ميلانشون، فهو حقق قفزة مذهلة في خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة ليصل إلى عتبة 20%، بعدما كانت شعبيته حتى نهاية مارس الماضي لا تتجاوز 9%.
والاستطلاعات الأخيرة أبرزت ايضا معطى آخر غير متوقع بالنسبة إلى ظاهرة المترددين، إذ تبين أن 20% من الناخبين الذين صوتوا لساركوزي في انتخابات 2012، لايزالون مترددين في حسم خياراتهم بخلال الاستحقاق الجاري.
وهذا المعطى يشير بوضوح إلى أن الشك بدأ يدب في أوساط ناخبي اليمين الليبرالي، الذين التحقوا بماكرون، وتخلوا عن مرشح «الجمهوريين» فرنسوا فيون، بسبب توجهاته الكاثوليكية المحافظة، أو بسبب الفضائح المالية التي طاولته في الأشهر الأخيرة.
ورغم ترجيح هزيمة أكبر حزبين تقليديين من اليمين واليسار، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة لإعادة تشكيل المشهد السياسي، ولكن الثابت هو فوز ماري لوبن في الدورة الأولى، وستكون في وضع يؤهلها للحلول في المرتبة الأولى.
وهذه المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية التي يقترب فيها اليمين المتطرف من مقاعد السلطة متخطيا بذلك الحزبين التقليديين وأولهما حزب الجمهوريون «اليمين الكلاسيكي مع بعض مجموعات الوسط» والحزب الاشتراكي «مع الراديكاليين ويسار الوسط».
ولا تتوقف الأمور عند هذا الحد، حيث تفيد معلومات بأن استطلاعا أجرته المخابرات العامة الفرنسية وهو غير مخصص للنشر، أفاد بأن لوبن وميلانشون هما من سيحتلان المرتبتين الأولى والثانية في الجولة الأولى وبالتالي سيتأهلان للدورة الثانية.
وإذا صدقت هذه التوقعات، فإن فرنسا ستكون قد عرفت ثورة ديموقراطية بحيث إن مرشحي الأطراف هما من حل مكان المرشحين التقليديين، وأن الحزبين الرئيسيين اللذين تناوبا على حكم البلاد منذ نحو 60 عاما سيكونان على الأرجح غائبين عن الجولة الثانية.