خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب من لقائه مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون ليصرح ويقول: «كان لقاء رائعا بالفعل.
تم أفضل مما كان من الممكن تصوره.. سنذهب الآن للتوقيع على وثيقة (لم يحدد طبيعتها).
لقد تم تحقيق تقدم كبير».
يكتسب لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي عقد امس في سنغافورة، صفة «قمة تاريخية» معيدا الى الأذهان قمة تاريخية مماثلة عقدت في العام 1988 بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشيف لمناقشة تقليص الأسلحة النووية.
هذا اللقاء الأول من نوعه بين رئيس أميركي ورئيس كوري شمالي منذ الحرب الكورية عام 1950، لا يتوج مسارا تفاوضيا، وليس معدا لتوقيع اتفاق جاهز، وإنما يطلق عملية تفاوضية صعبة ومعقدة بشأن الترسانة النووية لكوريا الشمالية والوصول الى اتفاق شامل ونزع الأسلحة النووية مقابل سحب القوات الأميركية من شبه الجزيرة الكورية، وتقديمات وضمانات مالية واستثمارية تعطى لكوريا الشمالية.
يراهن الرئيس ترامب، الذي يتعاطى بمنطق الصفقات التجارية والمالية، على رغبة وحاجة الرئيس الكوري الشمالي «كيم» في الحصول على أمرين أساسيين: الأول هو كسب شرعية ومكانة في المجتمع الدولي والخروج من عزلة دولية مفروضة عليه، والثاني هو الحصول على تنمية اقتصادية وتدفقات استثمارية، وإنهاء عقوبات اقتصادية مفروضة على كوريا الشمالية بسبب برامجها النووية والصاروخية.
قمة سنغافورة هي نقطة البداية في «عصر جديد» وفي مسار تفاوضي هدفه «نزع الأسلحة النووية وإقامة سلام دائم ومستدام في شبه الجزيرة الكورية».
من المستبعد أن يكون اللقاء مجرد حيلة كورية شمالية أخرى للحصول على تنازلات من الجانب الأميركي، أو مجرد «لقاء صورة» يظهر فيه القادة مبتسمين ومتفائلين وبعد ذلك ينهار كل شيء، هذا اللقاء يعطي إشارة البدء في حوار يوصل الى إبرام صفقة كبرى، ومن الطبيعي ألا يصل هذا الاجتماع الى حل كل الخلافات حول الأسلحة النووية، وأقصى التوقعات في أن يتفق الطرفان على إجراءات لبناء الثقة وعلى عملية واضحة تسير خطوة بخطوة باتجاه خلق بيئة آمنة تدفع الكوريين الشماليين الى اتخاذ خطوات حقيقية وتكون الولايات المتحدة في وضع يمكنها من مراقبة هذه الخطوات والتحقق منها.
لذلك، فإن التحدي الأكبر سيكون بعد لقاء سنغافورة، وفي الاجتماعات اللاحقة بين وزيري خارجية البلدين اللذين سيبحثان في التفاصيل والخطوات المتعلقة بنزع السلاح النووي.
ومثل هذا الحوار على المدى الطويل يمكن أن يستغرق سنة أو سنتين، أي أن يستهلك ما تبقى من ولاية ترامب للتوصل الى حل كل المسائل المطروحة على الطاولة بشكل كامل.
اجتماع سنغافورة حدث دولي بامتياز.
أنظار العالم بأسره شخصت إليه.
وستكون له تداعيات على مجمل المشهد الدولي أي تكن النتائج.
لا شك في أن إيران تراقب مدى نجاح هذا اللقاء وصورة انعكاس «الاتفاق النووي» الجديد الأميركي ـ الكوري على «اتفاقها النووي» المعلق.
وأسوأ سيناريو بالنسبة لإيران هو نجاح ترامب في نزع أسلحة كوريا الشمالية واحتواء خطرها النووي والباليستي، ما يعطيه دفعا للتقدم بمشروعه في التعامل مع الملف النووي والصاروخي الإيراني.
لذلك، فإن الموقف الإيراني عشية القمة غلب عليه الحذر والتحذير.
الحذر من أن ينجح ترامب مع كوريا الشمالية حيث فشل مع إيران.
والتحذير الموجه لكوريا الشمالية بدعوتها الى اليقظة الكاملة والتعلم من التعامل غير المنطقي وغير المسؤول لترامب مع إيران في الاتفاق النووي، وعدم الأخذ والخداع بالتهديدات الأميركية، وعدم الركون الى وعود ترامب غير الجدير بالثقة، إيران التي تراقب، مثل الصين وروسيا، نتائج الصراع بين ضفتي الأطلسي وتتطلع إلى تحالف متين مع بكين وموسكو، تنتظر نتائج قمة سنغافورة.
هل يبرم ترامب اتفاقا مع كيم ليس بعيدا عما أبرمت هي مع الرئيس باراك أوباما؟ أم هل ينتزع تعهدا واضحا من الزعيم الكوري بتدمير ترسانته النووية والصاروخية الباليستية ليكون اتفاقا نموذجيا يحتذى؟
رأى كثيرون أن سياسة القوة والتهديد التي استخدمها البيت الأبيض مع بيونغ يانغ أثمرت.
وكان آخر المعجبين بهذه السياسة وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون.
عبر عن إعجابه بأسلوب الرئيس الأميركي في استخدام القوة في التفاوض، وإن أدى الأمر إلى كل أنواع القطيعة واللحظات الفوضوية.
العبرة بأي حال في النتائج.
فليس مضمونا أن يتخلى كيم فورا عن ترسانته النووية ما دام أنها كانت وراء القمة.
أي أنها كانت هي الأخرى أداة تهديد فعالة وحيدة تملكها بلاده.
ولعل الوزير البريطاني تناسى دور الصين في الانعطافة الكورية الشمالية.
فهي كانت ولاتزال تفيد من هذه الورقة مستغلة حاجة بيونغ يانغ إليها سياسيا واقتصاديا.
ألا يكفي أن اليابان تعيش على وقع مخاوف مزدوجة: تخشى ألا تسفر القمة عن اتفاق حاسم لنزع السلاح النووي، وتخشى أيضا أن تجد نفسها معزولة في المرحلة المقبلة، وهو ما تسعى إليه بكين.
حتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سعى إلى استغلال ورقة كوريا الشمالية فبعث قبل أيام بوزير خارجيته سيرغي لافروف إلى بيونغ يانغ.
يود بالطبع توجيه رسالة إلى المعنيين في الإدارة الأميركية أن روسيا يمكنها أن تؤدي دورا في القضية الكورية، سلبا أو إيجابا.
تماما كما تفعل بكين التي زارها كيم مرتين منذ إعلانه عن القمة المرتقبة مع ترامب.
وحرص الزعيم الروسي على لقاء قمة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، عشية قمة سنغافورة.
يرغب في تعزيز العلاقات مع بكين بعدما طلقت من زمن موقف الحياد الذي طبع سياستها في سنوات الحرب الباردة، وبات من مصلحتها أن تنسق مواقفها مع موسكو.
ومارست هذه السياسة في كثير من الملفات والقضايا الدولية، خصوصا في مجلس الأمن.
تجمع البلدين مصلحة مشتركة في الوقوف معا لانتزاع موقع ندي لواشنطن في إدارة شؤون العالم.
وفي حين تقيم الصين على أبواب حرب تجارية مع الولايات المتحدة، تخوض روسيا مواجهة مع الأخيرة تبدأ في أوكرانيا ولا تنتهي في سورية.
وفي ضوء هذه المواجهة يبدو مستبعدا أن تلجأ موسكو إلى مواجهة مع طهران.
بل قد تنحو منحى بكين في استخدام علاقاتها مع إيران ورقة تفاوض مع الولايات المتحدة.