قد لا يكون المؤتمر الصحافي للسيد حسن نصرالله في مستوى الحملة الدعائية التي سبقته وجعلت ان المؤتمر يسجل أعلى نسبة متابعة ومشاهدة واهتماما غير مسبوق في الداخل والخارج، وقد يكون الاتهام الموجه لإسرائيل باغتيال الرئيس رفيق الحريري بحاجة إلى مزيد من التماسك والترابط في القرائن والمعلومات الموصلة الى هذين الاستنتاج والاتهام، وقد كان السيد حسن نصرالله مدركا لهذه النقطة وتحلى بالواقعية عندما تحدث عن «قرائن» وليس عن «أدلة قاطعة»، ولكن من الواضح ان مؤتمر السيد حسن نصرالله المخصص لتوجيه اتهام الى إسرائيل حقق هدفه وأصاب نجاحا كافيا لحجب ما اعتراه من ثغرات:
1 - نجح حزب الله في إثارة «فرضية اتهام إسرائيل» وإدخالها «عنوة» الى مسار التحقيق الدولي. وهذا يحصل للمرة الأولى منذ إطلاق تحقيق دولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحيث انحصرت الاتهامات في اتجاهين وفرضيتين: سورية وحزب الله، فيما جرى إهمال وإسقاط فرضية اتهام إسرائيل، رغم انها واحدة من الجهات المستفيدة من الاغتيال ان لم تكن أولاها وأكثرها استفادة.
2 - إذا لم ينجح حزب الله في إثبات ضلوع إسرائيل في اغتيال الحريري بشكل كاف وواف، فإنه نجح في «زعزعة» القناعات وإثارة البلبلة والشكوك و«التشويش» على التحقيق الدولي وإعادة خلط الأوراق الاتهامية، على الأقل على المستوى السياسي و«الرأي العام» حتى لو ظلت محاولته غير ذات تأثير عملي على التحقيق الدولي وظلت المحكمة الدولية على مسارها ولم تفتح على آفاق جديدة.
3 - حزب الله وضع القرار الظني المرتقب ومسألة اتهامه في سياق الحرب المفتوحة المتعددة الأشكال بينه وبين اسرائيل، هو يعتبر ان الاتهام أو مشروع الاتهام الذي يستهدفه هو «إسرائيلي المصدر والمنشأ والهدف»، ويعتبر ان المحكمة الدولية باتت محكمة اسرائيلية، ولذلك فإن رده على هذا الاتهام تجاوز رفض القرار الظني الى التلويح بإسقاط وإلغاء المحكمة الدولية بالوسائل المتاحة، وتجاوز الدفاع عن النفس باللجوء الى سياسة الهجوم واتهام إسرائيل.
4 - لم يكن اتهام حزب الله لإسرائيل اتهاما سياسيا بحتا مبنيا على سياق عام لأحداث تلك الفترة والظروف التي من ضمنها جرى اغتيال الحريــري، مــن الاجتيــاح الأميركي للعراق إلى صدور القرار 1559، وإنمــا قصد اتهاما «عمليا» مبنيا على قرائن ومعطيات. ومن الواضح ان حزب الله بذل جهدا مركزا ومضنيا في «التنقيب» عن هذه القرائن والربط فيما بينها والتوصل الى استنتاجات تصب في «مضبطته الاتهامية» لإضفاء حد أدنى ومعقول من «منطق اتهامي» لا يأتي من فراغ وإنما يستند الى معطيات حسية وموثوقة.
5 - للمرة الأولى، يعقد السيد حسن نصرالله مؤتمرا صحافيا «تقنيا» هو أقرب الى «فيلم وثائقي» لم يكن من الضروري أن يتولاه شخصيا، ولكن الأمين العام لحزب الله الذي أخذ على عاتقه قيادة عملية الرد على اتهام الحزب يكمل هذه «العملية الحملة» حتى النهاية واضعا رصيده ومصداقيته في خدمة هذه الحملة التي نفذت بطريقة منهجية على المستويين الاعلامي والسياسي عبر إطلالات متتالية ومكثفة وتوجت بتوجيه الاتهام الى اسرائيل، وأيضا بطريقة منهجية جمعت بين القرائن السياسية والأمنية.
في القرائن السياسية سلط نصرالله الضوء على محاولات إسرائيل المبكرة (التسعينيات) في لعبة الإيقاع بين الحريري وحزب الله، وفي تسويق خطط وهمية وفي اتهام الحزب منذ ذلك الوقت بمحاولة اغتيال الحريري، كما تحدث عن استفادة إسرائيل من الاغتيال وعن امتلاكها قدرات تسمح لها بتنفيذ العملية، وفي القرائن الأمنية كان الكشف عن أسرار ومعطيات يتحفظ على كشفها حزب الله، خصوصا ما يتعلق بسر اختراق البنية العسكرية الإسرائيلية الجوية والحصول على صور جوية التقطتها طائرات الاستطلاع وقدمت نماذج عن عمليات رصد متكررة ومن زوايا مختلفة لطرق يسلكها موكب الحريري في اتجاهين قريطم وفقرا، يضاف الى ذلك حركة وشبكة العملاء التنفيذيين الذين اغتالوا كوادر في المقاومة وحاولوا أيضا اغتيال الرئيس نبيه بري وكلفوا أخيرا بمراقبة منزل الرئيس ميشال سليمان في عمشيت ويخت قائد الجيش العماد جان قهوجي، وأخطر هؤلاء العميل «غسان الجد» الذي كان يستقبل مجموعات إسرائيلية ويؤويها، وكان موجودا في ساحة الجريمة في السان جورج قبل يوم واحد (13 فبراير 2005).
6 - السيد حسن نصرالله يدعو انطلاقا من هذه القرائن الى أخذ فرضية اتهام إسرائيل في الاعتبار رابطا بين صدقية المحكمة الدولية وإدخال هذه الفرضية في مسار التحقيق الدولي وأي قرار ظني سيصدر عن المحكمة، وبات هذا «الشرط» متقدما على شرط آخر كان أدلى به السيد نصرالله وهو محاكمة شهود الزور لتكون بمنزلة بداية جديدة للتحقيق الدولي وتصويبا لمساره وإعادة الصدقية الى المحكمة.
والى جانب الدعوة الى تصويب مسار المحكمة والقرار الظني قبل صدوره، فإن نصرالله يتوخى أو يساهم عبر إثارة العامل الاسرائيلي في توفير مخرج سياسي لمأزق المحكمة الدولية ولأزمة القرار الظني عبر تسهيل فرص وإمكانات رفضه بدعوى انه قرار إسرائيلي المنشأ والهدف، وانه قرار غير متوازن وغير عادل مادام انه أغفل فرضية اتهام اسرائيل. وبالتالي فإن ما ينتظره حزب الله بعد اليوم ليس فقط القرار الظني الذي سيصدر، وإنما موقف الرئيس سعد الحريري الذي سيسبقه أو يتزامن معه ويكون كافيا لتعطيل مفاعيله وتداعياته السلبية.
7 - السيد حسن نصرالله اكتفى في مؤتمره الصحافي بتمرير مطالعته الاتهامية ضد إسرائيل بهدوء وسلاسة متفاديا أي كلام سياسي عن المحكمة والحكومة وملتزما أجواء التهدئة التي أعقبت القمة الثلاثية في قصر بعبدا، ومفسحا في المجال أمام الجهود السعودية، وواضعا الكرة في ملعب غيره: كرة الاتهام وضعها في ملعب اسرائيل، وكرة الموقف السياسي وضعها في ملعب الحريري.
هذه ليست الاطلالة الأخيرة للسيد حسن نصرالله، هناك اطلالة أخرى وأهم بعد شهر رمضان بعدما تكون مساعي التهدئة والبحث عن مخارج وحلول أخذت مداها وفي ضوء ما تتوصل اليه، فإذا لم تنجح ولم تصل الى شيء قال نصرالله ما لم يقله حتى الآن وسيكون الأخطر والأشد وقعا على المناخ الداخلي، وإذا نجحت المساعي العربية يكون نصرالله ربح معركة هو اختار توقيتها الاستباقي وطابعها الوقائي ومضمونها الاتهامي، والواضح وسط حالة الانتظار المحددة حتى شهر سبتمبر، حيث تزدحم الأجندة الإقليمية بمواعيد واستحقاقات، ووسط ضبابية القرار الظني موعدا ومضمونا، ان الوضع اللبناني دخل «هدنة رمضان»، وهذه الهدنة ستكون فسحة زمنية سياسية أخيرة قبل الوقوف على مفترق طرق: إما انفراج وإما انفجار.