دخل الوضع في لبنان مرحلة دقيقة ومسالك وعرة، الأحداث تتحرك بدينامية ووتيرة سريعة، والمفاجآت والتطورات الدراماتيكية صارت واردة، ومع أن الوضع العام مازال تحت السيطرة إلا أن منسوب القلق يرتفع وهذه المرة عند الطبقة السياسية التي يحاصرها تحرك شعبي غير مألوف تحتار في كيفية التعاطي معه وتجهد في احتوائه قبل أن يخرج عن سيطرتها، وصورة المشهد اللبناني يمكن إيجازها اليوم في النقاط التالية:
1 ـ ثمة سباق بين الحوار السياسي والحراك الشعبي، بين عملية احتواء سياسي للأزمة وسحبها من الشارع، وعملية توتير وتسخين للأوضاع على الأرض وتهيئة الأجواء لنقل الأزمة الى مستويات جديدة ومتقدمة.
2 ـ نجح الرئيس نبيه بري في تحريك الجمود بإلقائه حجر الحوار في المستنقع السياسي، كما نجح في اختيار الوقت المناسب وفي «اقتناص» اللحظة واستخدام سريع لحراك الشارع بأن جعله حافزا على الحوار ودافعا لتسريعه، فكان أن انفرد في تحديد مكان وزمان الحوار وجدول أعماله، وان حصل على تجاوب سريع وإيجابي، فأكثر ما لفت في مبادرة بري الحوارية هو مسارعة كل القوى والقيادات الى تأييد هذا الحوار بالصيغة المقترحة ومن دون شروط، وبما يفيد بأن هذه القوى سارعت الى ملاقاة وتلقف المبادرة كـ «طوق نجاة ومخرج متاح»، وهذا مؤشر الى أمرين: الأول أن الطبقة السياسية تتساوى في المأزق والإحراج ولا تمتلك خيارات وبدائل، والثاني أن الطبقة السياسية متوجسة وقلقة من الحالة الشعبية المستجدة ومنحاها غير الواضح.
من هنا، فإن تأييد القوى والأحزاب للحركة الشعبية ومطالبها المحقة جاء مقرونا من جهة بتحذيرات من الجنوح الى الفوضى والشغب والتخريب، ومن جهة ثانية بتساؤلات عمن يقف وراء الشارع تمويلا وتحريكا مع توجيه أصابع الاتهام الى سفارة أو أكثر.
3 ـ إذا كان السباق جاريا بين مسارين: المسار السياسي الحواري والمسار الشعبي «الشارعي»، فإن الشارع موزع بين شارعين:
أ ـ الشارع الذي تحركه مجموعات المجتمع المدني وتقوده حركة «طلعت ريحتكم» التي طرأ تحول نوعي على تحركها تمثل في الانتقال من التظاهر في الشارع الى «اقتحام الوزارات» رغم الحفاظ في الحالين على الطابع السلمي للتحرك.
نجحت حركة «طلعت ريحتكم» بخطوة الدخول الى وزارة البيئة واحتجاز الوزير والضغط عليه للاستقالة، وفي استخدام عنصر المباغتة وفي تحديد هدف غير محسوب وفي اجتذاب الأضواء الإعلامية واهتمام الرأي العام الذي تابع التطورات بشغف وعلى مدى ساعات وعلى طريقة تلفزيون الواقع، ما أضفى على الحدث طابع الإثارة والتشويق، لكن هذه الحركة ارتكبت «فاولا» وقامت بدعسة ناقصة، فأعطت السلطات ذريعة للتدخل المشروع قانونا ومن خلفية تحرير مرفق عام جرى احتلاله، وعززت مشاعر القلق من أن يحيد التحرك عن طابعه ومساره ويأخذ الوضع الى مكان آخر.
في انتقائها لـ «وزارة البيئة» أرادت حركة «طلعت ريحتكم» إصابة عدة عصافير بحجر واحد وتحقيق عدة أهداف: أن تقول أولا إنها الأساس والمحرك وصاحبة القرار في كيفية التصعيد وتوقيته، وأن تصل ثانيا الى مكسب وإنجاز أول يعزز مصداقيتها ويعطي زخما لبرنامج تحركها، فإذا نجحت في وزارة البيئة الحلق الأضعف وملف النفايات، الملف الأكثر إلحاحا، جرى الانتقال الى وزارة أخرى وملف آخر، لكن بعد المبارزة في وزارة البيئة التي انتهت في غير مصلحة المتظاهرين لم يعد أمامهم إلا التصعيد للتعويض.
ب ـ الشارع الذي يصر التيار الوطني الحر على أن يفتحه «على حسابه» وفي الملعب ذاته: ساحة الشهداء، ومن خلفية أنه هو «المالك الأساسي والأصيل للشعارات المطروحة»، وأن هذا هو الرد على محاولات تعميم الفساد والحملات على كل الطبقة السياسية، وأيضا على الاستهداف الذي يتعرض له التيار ويتضمن تشكيكا بقدرته على الحشد وتحريك الشارع.
نزول التيار الوطني الحر الى الشارع، وهو أقرب الى «التحدي مع الذات»، لا يخلو من مخاطرة سياسية وشعبية لعدة أسباب منها عدم ملاءمة هذا التحرك الميداني مع الظروف السياسية سواء تلك المتصلة بانطلاقة الحوار وانخراط العماد عون فيه وهو ما يتعارض مع التعبئة وخيار الشارع، أو تلك المتصلة بالوضع المستجد الانتقالي داخل التيار مع «تنصيب» جبران باسيل رئيسا له وما أدى إليه ذلك من بلبلة داخلية وحاجة الى إعادة تركيز أوضاع التيار وإخراجه من اختبار «رئاسي حصل في وقت غير مناسب، قبل زجه على الأرض في اختبار عرض قوة شعبي لا يحتمل انتكاسة وخطأ في التقدير، فهل يحصل تأجيل أو إلغاء لهذا «النزول الى الأرض» أم يحصل أيا تكن النتائج والمحاذير؟!