A بيروت ـ جويل رياشي
قد تتخذ علاقتنا بالأمكنة منحى آخر بعد قراءة رواية «رحيل المدن» لجنى نصرالله.
قد نشعر بانزلاقها من تحت أرجلنا.
المدن التي نعيش فيها ونرحل عنها أو تلك التي ترحل عنا ونحن لا زلنا نعيش فيها، الأمكنة التي نحبها ولا نعرف سبيلا للاستقرار فيها وتلك التي لا نحبها ونستقر فيها، استنتاجات تفتحها الرواية على مصاريعها، وسؤال يظل يطرح نفسه حتى بعد الانتهاء من فصول الحكاية: هل المدن هي التي ترحل ام نحن الذين ننعتق عنها وعن انفسنا؟
الرواية الثانية لنصرالله بعد «النوم الابيض» وكلاهما عن «دار رياض الريس»، تشي بجذور الكاتبة الصحافية، ففضلا عن اكتمال عناصر الرواية، بدت «اللوثة» الصحافية واضحة بين دفتي الكتاب.
تشتم بين الحين والآخر رائحة تحقيق صحافي هنا عن «قهوة الجميزة» وهناك عن شارع الحمرا وتحولاته عبر الزمن وعن حلب وعادات الحلبيين وتقاليدهم.
وكذلك تشي الرواية، من جملة ما تشي به، بتأثير الحرب اللبنانية في نفس الكاتبة شأنها شأن كتاب ومسرحيين وسينمائيين لبنانيين كثر ظلت الحرب مهيمنة على اعمالهم بكل طغيانها وآثارها.
الحرب عمود اساسي في رواية نصرالله، حتى انها لم تكتف بالحرب اللبنانية بكل فصولها، بل أدخلتنا في حروب الآخرين من حولنا، ووصلت بنا الى الارهاب الذي ضرب اوروبا.
«رحيل المدن» رواية واقعية الى درجة تجعل القارئ يتماهى مع شخصياتها.
يشعر وكأنهم اناس يعرفهم: جيرانه، او ابناء خالته مثلا، او زملاء في العمل.
شخصيات محبوكة بواقعية آسرة «تجرك» معها من مدينة الى اخرى لتعيش تفاصيل حياة يومية ترسم لك معالم العيش في مدن قد تكون تعرفها، ولكنك تشعر انك تكتشفها من جديد برفقتهم.
بيروت، دبي، باريس، حلب، كوساداسي هافانا.. كلها مدن طبعت شخصيات الرواية بخصوصياتها، ولا ننسى الحيز المهم الذي أفردته نصرالله لسريلانكا ومدينة راتغاما مسقط رأس العاملة المنزلية للعائلة التي «تبلدت» في لبنان واصبحت معنية في شؤونه السياسية وحروبه اكثر من اهله.
ولا تخلو الرواية من السياسة، نقطة ضعف كل صحافي لبناني.
تمرر الكاتبة رسائل ومواقف بين السطور كمثل انتقاد تجارب الربيع العربي التي اتت بعض مواسمه «قاحلة» والعجز عن تحديد موقف صارم بالنسبة لما يجري في سورية، وكذلك انقسام اللبنانيين الطائفي واصطفافاتهم الفارغة.
رواية الحرب والغربة والرحيل والعودة تنتهي بحادثة مفاجئة ولكنها تفتح احتمالات عدة في مخيلة القارئ الذي لابد ان استعاد خلال رحلته بين المدن شيئا من حنينه الى احداها.