إعداد: محمد ناصر
للكويت مع الراحل الكبير د.غازي القصيبي صفحات مشرقة ووضاءة لا تمحى من الذاكرة ولا يطويها الموت، فلا يستطيع أي منا نسيان مواقفه وأشعاره التي سطرها في زمن عزّ فيه الرجال وانكشفت معادنهم، اذ كان أحد أبطال مقاومة الاحتلال واحدى الهامات الشعرية التي حملت سلاح الكلمة وتصدت به للعدوان وابدعت قصيدة أبكت كل الكويتيين وهي «أقسمت يا كويت».
كان القصيبي يعتبر ان محبته للكويت هي محبة وشعور متبادل وينطلق في شعوره هذا من نظرة عروبية خالصة تعتبر ان كل بلد عربي هو بلده وكان ينظر من ضمن النطاق العربي الى الإطار الخليجي نظرة خاصة حيث نشأ في المملكة ثم انتقل الى البحرين وتنقل بين دول المنطقة لتصبح دول الخليج كلها بمثابة وطنه.
أقسمت يا كويت
ويسترجع د.القصيبي (رحمه الله) لحظات العدوان العراقي الغاشم الأولى حيث كان يستمع الى نشرات الأخبار العالمية عندما صعقه خبر الاحتلال العراقي الآثم، عندها وقف القصيبي مدافعا صلبا عن الحق الكويتي ولم يكن حاله كحال عدد من المثقفين العرب الذين بحثوا عن الشعبوية الفارغة أكثر من حرصهم على انسجامهم مع نفسهم ومع مبادئهم حيث واجه الجماهير العربية بالحقائق ودك مواقع النظام المقبور بأسلحته الأدبية التي كان وقعها أليما في نفوسهم وعظيما ورائعا في قلب كل من يعرف للحق طريقا.
فأصبحت قصائد القصيبي زادا يتزود به الكويتيون وطاقة تشحذ همم الأبطال المقاومين عندما أقسم برب البيت ان ترجع الكويت من بنادق الغزاة
أقسمت يا كويت
برب هذا البيت
سترجعين من خنادق الظلام
لؤلؤة رائعة
كروعة السلام
أقسمت يا كويت
برب هذا البيت
سترجعين من بنادق الغزاة
أغنية رائعة
كروعة الحياة
*****
أقسمت يا كويت
برب هذا البيت
سترجعين من جحافل التتار
حمامة رائعة
كروعة النهار
*****
كويت! يا كويت!
يا وردة صغيرة
قد صدمت بعطرها صدام
وهزت بعطرها
الغدر والجحود والإجرام |
ففي الايام الاولى للاحتلال البغيض تشكلت قناعة لدى البعض بان الكويت لن تعود ابدا وكان اليأس هو الصفة الغالبة خلال الاسبوع الاول من الاحتلال وكان البعض يتحدث عن ضرورة التأقلم مع تلك الحقيقة اذ كانوا يقولون «لقد ذهبت الكويت واصبحنا الآن امام امر واقع جديد الا رجالا لم تلن عزيمتهم ولم ينقص ايمانهم وكان من ضمنهم غازي القصيبي (رحمه الله) الذي كان يقول ان اي شيء من هذا القبيل لم يخطر ببالي على الاطلاق.
في عين العاصفة
اما مقالاته فلم تكن اقل وقعا حيث سخر قلمه بكتابات متواصلة للدفاع عن الحق الكويتي في جريدة الشرق الاوسط اللندنية عبر زاوية «في عين العاصفة» كانت لتبيان زيف ادعاءات النظام العراقي المقبور وفضح اعوانه ومؤيديه وحلفائه المهينين الذين هم في عذاب مهين كما كان يطلق عليهم (رحمه الله)، فكانت كلمات ابي يارا (رحمه الله) في عين العاصفة اقوى تأثيرا على اولئك الذين وقفوا مع النظام المقبور من اي سلاح وكان لها وقع شديد وكانوا يحسبون له ألف حساب.
أسرى الكويت
كان رحمه الله عند سؤاله عن أسرى الكويت يردد دائما ان التشاؤم يغلب عليه في هذا الموضوع لأن النظام العراقي المقبور لا يقيم للحياة الشرعية وزنا وكان يرى انه لو كنا نتعامل مع نظام طبيعي لديه الحد الادنى من الحرص على حياة الانسان لكان الامر اختلف تماما. اذ كان يعتبر نفسه متشائما جدا لأنه متشائم من كل موقف انساني يتعلق بذلك النظام، وكان يرى ان النظام الذي يسمح لأطفاله بان يموتوا جوعا ويحرمهم من الدواء للمتاجرة بمأساتهم لن يتورع عن ارتكاب جريمة بحق مئات الاشخاص من شعب آخر.
تكريم سلاح القلم
بعد تحرير الكويت ودحر المحتل العراقي استمر القصيبي ـ رحمه الله ـ من خلال منصبه كديبلوماسي في فضح أكاذيب واختلاقات النظام العراقي المقبور، ليكون احد ابرز الكبار الذين كرمتهم الكويت تقديرا وعرفانا لدورهم في تعرية الأكاذيب حيث قلده امير الكويت الراحل الشيخ جابر الاحمد رحمه الله في أول مارس 92 وسام الكويت ذا الوشاح من الدرجة الممتازة تقديرا لمواقفه المشرفة أثناء الاحتلال ولمساهماته الأدبية العديدة في هذا المجال.
سلاح القلم
وقد ألقى د.غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ حينها الكلمة التالية لدى تقليده وسام الكويت ذا الوشاح من الدرجة الممتازة هذا نصها:
يا صاحب السمو.. أتوجه إليكم بعميق الشكر وبالغ الامتنان على تكرمكم بمنحي هذا الوسام الرفيع الذي سيكون له في قلبي مكانة خاصة لأنه يذكرني بملحمة التحرير الخالدة وبصمود الشعب الكويتي النبيل في وجه ابشع احتلال بغيض وببطولة الشهداء والشهيدات وبروعة النصر المجيد الذي تحقق بعون الله وفضله وكرمه.
وانتم تعلمون يا صاحب السمو انني لست سوى جندي بسيط من جنود شقيقكم وحليفكم وشريككم في ملحمة التحرير خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز. ومن هنا فإنني أجد في هذه اللفتة الكريمة منكم انعكاسا لما تحملونه لأخيكم الملك فهد بن عبدالعزيز من مشاعر ود راسخ مكين وما يكنه الشعب الكويتي النبيل للشعب السعودي من حب كبير تجلى في الدم الواحد الذي سال في معركة المصير الواحد.
واذا كانت العادة قد جرت يا صاحب السمو بعد معارك التحرير على تكريم حملة السلاح من المقاتلين الابطال وهم اجدر الناس بالتكريم فإن تكريم حملة القلم بعد ملاحم السلاح سنة حميدة تسنونها ومبادرة تسبقون الى فضلها، لقد وقف الآلاف من حملة القلم في المملكة وفي الخليج وفي الأمة العربية وعبر العالم الاسلامي وعلى امتداد الكرة الأرضية مع الكويت بنثرهم وشعرهم وفكرهم وريشتهم واهازيجهم واغانيهم، وقفوا مع حق الكويت في مواجهة باطل المعتدين.. واذا كان من المتعذر تكريم كل فرد من هؤلاء الآلاف فإنني اسمح لنفسي واستميحكم العذر ان تسمحوا لي بأن اعتبر هذا الوسام تحية شخصية من سموكم وتحية شخصية من شعب الكويت الى كل شاعر وكاتب واديب وصحافي وفنان وقف مع شعب الكويت ساعة العسرة وقفة المبدأ والحق.
والله أسأل ان يحفظكم للكويت وان يحفظ الكويت الغالية وهي تخطو بقيادتكم نحو المستقبل المشرق مرفوعة الجبين موفورة الكرامة متمسكة بشريعتها السمحة وعروبتها الأصيلة وتقاليدها العريقة.
والله أدعو أن يمن علينا بجمع الشمل ولقاء الأهل بالأهل وان يعيد فلذات أكبادنا من الأسرى والمحتجزين وما ذلك عليه سبحانه بعزيز.
شخصية مهرجان القرين
وفي يناير 2003 كرّمته الكويت واختارته شخصية مهرجان القرين الثقافي كونه كان ابن الكويت في أيامها الصعبة ولكونه شخصية تملكت الابداع في أبهى صورة فطرق أبواب الشعر فأبدع وكتب القصة والرواية فأذهل واقتحم مجالات الفكر والثقافة فشغل الناس.
وشكر القصيبي (رحمه الله) حينها الكويت على حبها المتدفق ورأى في قبوله التكريم ما يراه العرب قائلا: «لا يرد الكريم الا اللئيم» ليبدأ بعدها حديثه الشجي عن حياته وأعماله وليختتم قائلا: شكرا، لأنكم استمعتم الى شاعر يعترف بانه ليس من شعراء الطبقة الأولى، وشكرا لأنكم قرأتم روائيا يعرف انه لن يرقى الى مستوى أساتذة هذا الفن، وشكرا لأنكم بعواطفكم المشتعلة تبعثون حيوية الجمر في رماد الكهولة، وتجددون جذوة الشباب في الربيع الذي يتحول الى خريف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمامة والكابوس
كان الليل مظلما ـ كضمير الطاغية..
عندما تسربت خفافيش الغدر..
على جناح كابوس بشع..
وهاجمت حمامة وادعة نائمة..
في عش صغير بقرب الساحل
*****
وكان اسم الحمامة «الكويت»..
*****
لف الفجر نشيج صامت..
والحمامة تتململ في أغلال من حديد..
والعش محاصر بالدبابات..
والدوريات تعتقل كل حلم في العيون..
وتصادر كل ابتسامة في الشفاه..
*****
وقال من قال: «ذهبت الكويت!»..
*****
واستلقى الطاغية على عرش من الجماجم
يستعرض دُمى الموت والدمار
تمر فوق القبور.. ثم يقهقه..
وتضحك الخفافيش في كل مكان طربا..
*****
ويسأل الناس: «أين الكويت؟!»
*****
تنبثق إرادة الحياة..
وترفض الحمامة الصغيرة أن تلثم الأغلال
ويدوي نداء التحرير
ويعود الفجر مسلحا بألف فراشة..
وتنبت في الرمال نخلة حمراء..
طالعة من دم الشهداء والشهيدات..
ويرتفع الأذان..
*****
وتنقر الحمامة الأغلال.. فتسقط..
*****
ومرت خمس سنوات..
نسي الطاغية عهد القهقهة..
واختفى بعيدا عن دُمى الموت والدمار
وأصيبت الخفافيش بالذعر..
وتهاوت مع أشعة الشمس..
*****
وفي العش الوادع الصغير..
تصدحُ حمامة وادعة صغيرة..
بكل أغاني الحب والحياة والأمل..
*****
اسم الحمامة «الكويت»!
غازي القصيبي
أغنية العودة
وها هو ذا الآن وجهك يبرق عبر الدخان
كلؤلؤة في ظلام المحارة تشهق
اضواؤها في ظنون نواخذة المركب المتعبين
اجيئك متشحا بالخليج الذي داهمته قراصنة البحر
في ليلة الغدر والغادرين
اجيئك متشحا بالصحاري التي
باغتتها قراصنة البر وهي
تسوق القوافل خلف الربيع الضنين
اجيئك مؤتزرا بالشراع
بصوت الحداء.. الحزين.. الحزين
اقص عليك عجائب هذا الزمان
واتلو على وجهك الحلو
ما كنت اكتب في امسيات الحنين
اذن فاشهدي
انني لم اخنك مع الخائنين
ولم اتبرأ من العشق ـ حين
اذن فاشهدي كنت في الشمس اجري
ولم اتبع الظل كالخائفين
وما بيننا كان جيش يموج من الشامتين
يقولون غبت ولا ترجعين
واقسمت لحظتها ترجعين
تعودين ما بقيت كلمتان
وما سكنت قلمي لفظتان
اذن فاشهدي كنت احمل شعري سلاحا وابرز لافعوان
اذن فاشهدي قد كسبت الرهان
احبك حتى تشيب النوارس
وهي تطارد افق الامان
احبك حتى تمل الصواري ظهور السفين
وحتى تجف دموع الغيوم
وحتى تغيب شموع النجوم
احبك ما اعتنقت نخلتان
وما خفقت في الصبا خيمتان
وما ارتعشت اضلع الليل وهي تردد اغنية العائدين
احبك ما دام هذا الخليج بهذا المكان
د.غازي القصيبي
القصيدة التي كتبها الراحل متغنياً بتحرير الكويت