أحمد عفيفي
مجرد حوار تخيلي بالقطع، فلا أنا خروف استطيع ان أتفاهم بلغة الخراف، ولا الخروف بني ادم يستطيع ان يفهمني ولو بالإشارة. إذن.. فالعلاقة بيننا مقطوعة لانعدام لغة الحوار، لكن لنتخيل ان الخروف ينطق بغير «الماء..ماء.. ماء» الشهير بها ويستطيع ان يحاورني وأحاوره، فما شكل هذا الحوار، وماذا يمكن ان يحوي من أفكار. لهذه اللحظة وأنا أكتب، صدقوني لا أعرف الى أي مدى سيأخذني هذا الحوار، تركت نفسي ليأتي تلقائيا غير محدد مسبقا، ربما حفزني الخروف للدخول في مناطق محظورة، لكن عزاءه الوحيد - ان حدث ذلك - انه خروف، لن يحاسبه احد، لكن ما عذري أنا اذا جرني الخروف الى منطقة ملغمة غير عابئ بما يمكن ان يحدث لي أو ربما يكون ذلك قصدا منه، فأذبح معه ليلة العيد. دعنا من كل ذلك، ولنذهب الى ما ذهب اليه خيالي وأجري وأجر الخروف على الله.
ذهبت الى مكان فسيح في أطراف البلدة حيث الحظائر التي تحوي وتضم مئات الخراف، ورغم ان العيد على الأبواب الا ان الخراف كثر والمترددين على المكان قلة، انها الأزمة المالية التي ضربت كل ركن في أرضنا العربية بعد ان دمرت بلدانا عملاقة كثيرة.
لاحظت أول ما لاحظت ان الخراف تبدو الى حد كبير سعيدة لقلة الأرجل الغريبة عنها.. هم يعرفون فقط من يملكهم ويعدهم للبيع، لذلك تلحظ نفورا شديدا بين البائعين وخرافهم.. وشعورا عجيبا يسيطر عليهم بعدم الأمان ممن يحرص على شربهم وأكلهم وتسمينهم، لأنهم يدركون ان ذلك ليس لوجه الله، إنما ليزداد وزنهم ويباعوا بسعر أكبر يدخل بالطبع جيب البائع.وان كان هذا هو إحساس الخروف ناحية مالكه، فالنظرة أكثر قسوة وإيلاما للمشتري، فهم يعرفون مصيرهم إذا ما دفع هذا المشتري مبلغا ليأخذه الى حيث مصيره الأخير، وعموما.. لا البائع ولا المشتري يتعاطف الخروف مع أي منهما.. الاثنان «زفت».. الأول يبيع والثاني يذبح!
اقتربت من حظيرة بها أكثر من مائة خروف.. وعلي ان اختار خروفا واحدا لأجري معه حواري.. ليس لى أي مواصفات محددة لهذا الاختيار.. المهم ان المح فيه – اقصد الخروف – استعدادا للكلام والبوح.
وقعت عيني على أحد الخراف منزو بعيدا عن أقرانه.. لا يأكل ولا يشرب مثلهم، وكأنه يشعر بأنه أقربهم للبيع وللذبح، لذلك وجدته شاردا لم يشعر حتى باقترابي منه الى ان وضعت يدي على رأسه، فانتفض كأنني أيقظته من حلم كان غائبا فيه ومعه.. نظر الى نظرة ريبة وشك، وتلفت حولي فلم يجد مالكه البائع فأدرك انني لم آت لشرائه، لكنه لم يدع للفكرة ان تسعده ولو للحظة، فربما فقط أعاينه وأتفحصه قبل ان أدس يدي في جيبي واخرج ثمنه واسحبه معي الى حيث اذهب.
أدركت على الفور ما جال بفكر الخروف، فابتسمت له ابتسامة تدخل الطمأنينة الى قلبه وقلت له:
لا يذهب خيالك بعيدا، فلم آت لأشتريك ولا أملك ثمنك، فقد غلا سعرك بدرجة كبيرة مما جعل الكثيرون يحجمون عن الشراء... ثم وأنا ابتسم: ابسط ياعم.. حظك من السما.
ارتاح الخروف لبدايتي المطمئنة معه والتفت الى متسائلا:
وانت عايز إيه مني مادمت لن تشتريني و«مفلس».. لا تملك ثمني؟
قلت: أريد ان اجري معك حوارا.
بدهشة يسأل: معايا أنا.. خلاص البني ادمين خلصوا ومش لاقي غير الخروف عشان تكلمه؟
قلت له كي أحفزه على الكلام: ربما أنت عندي أفضل بكثير ممن أعرفهم من بني جنسي.
رد شاكرا: الله يكرم أصلك.. ده بس من ذوقك.. المهم.. ماذا تريد مني بالضبط؟
قلت له: لماذا انت دون الخراف كلها تركن وحدك بعيدا.. شاردا كأن شيئا ما يشغلك ويؤرقك؟
رد بدهشة: سؤالك عجيب.. العيد بعد يومين، والناس بتضحي، وفي أى لحظة يشتريني واحد مثلك ويذبحني.. اليس هذا الأمر كفيلا بما تراني عليه من شرود وقلق؟
قلت له: لكنك لم تسمع عن غلاء أسعاركم هذا العيد وعن الأزمة المالية في العالم كله التي جعلت جيوب الناس خاوية.. وفي بلدان كثيرة يعجزون عن شراء رغيف الخبز، فهل يعقل ان يشتروا خرافا؟
قال الخروف وهو يحاول ان يفهم: ازمة مالية والناس مفلسة ومش لاقية تاكل.. عشان كده محدش السنة دي جاء ليشتري؟
قلت: بالضبط.. انظر حولك.. عدد البائعين أضعاف أضعاف عدد المترددين على المكان للشراء، فلا تقلق ربما يمر هذا العيد وتظل حيا.. فرحان بشبابك ولا يجرؤ على الاقتراب منك احد.
سألني: وإيه سبب الأزمة المالية التي تتحدث عنها وجعلت أسعارنا ترتفع والطلب علينا يقل؟
قلت: دي حدوته كبيرة لن تفهمها.. فلا توجع رأسك بها.
رد غاضبا: ليه..انت فاكرني حمار؟
فقلت له مدافعا: وماله الحمار؟!
قال: اسأل نفسك.. الم تصفوا الذين لا يفهمون بأنهم حمير.. مع ان – ولو انك تزعل – الحمار بيفهم عنكم!
قلت وقد أغاظني: وبعدين يا عم الخروف.. احنا ح نغلط في بعض ولا ايه؟
رد: شفت بقى غضبت ازاى.. مع انك من شوية بتدافع عن الحمار!
قلت: يا سيدي انت والحمار فوق راسي.. بس ده مش موضوعنا.
قال: ماشي يا عم الانسان.. هات من الآخر وقول عايز ايه.
قلت: عايز اسألك.. انت عارف حكاية «الأضحية» من الاصل؟
رد: طبعا سمعتها ابا عن جد.. سيدنا ابراهيم عليه السلام امره رب العالمين ان يذبح ابنه اسماعيل عليه السلام، فلما امتثل للامر ونوى ذبحه انزل الله كبشا من السماء ليذبحه ابراهيم عليه السلام كفدية لابنه البار المطيع.
قلت: ما شاء الله عليك.. ده انت فاهم وواع ومثقف كمان!
رد: امال ايه.. انا خروف صحيح.. بس كلي مفهومية ودماغي توزن بلد!
سألته: ولماذا وانت تعي القصة الجليلة ومفهومها العميق تخشى الذبح؟! لو منك ابقى فرحان واكل واشرب و«ابقى منور» امام الزبون لأغريه بشرائي دون غيري واشرف بهذا الذبح تلبية لنداء رب العالمين.
نظر الى نظرة استنكار وكأن كلامي لا يعجبه: طبعا.. اللي ايده في الميه غير اللي ايده في النار.. وعلى رأى المثل بتاعكم: اللي عالشط عوام.
قلت له: واضح ان كلامي مش عاجبك.
قال: لا يا عم.. عاجبني وفوق راسي كمان.. لكن عندي اقتراحا لك: ايه رأيك لو نتبادل الاماكن وتصبح انت الخروف وانا انت .. وعايز اشوفك بقى حتعمل ايه وانت مسحوب - لامؤاخذة - من قفاك والسكاكين بتتسن عشان تقطع رقبتك؟
ضحكت وقلت: مينفعش يبقى انا انت.. وانت انا.
قال: ليه.. كبيرة عليك تبقى خروف؟
قلت: لا.. أرأف بك انت ان تكون انسانا.. انت كده احسن مني الف مرة..
ولاحظ الخروف بعضا من المرارة في كلامي فقال وكأنه ادرك عمق ما قصدته من معنى: صحيح.. انتم كبني ادمين رخصتوا ليه كده؟
قلت له: والمعلومة دي عرفتها ازاي؟
اجاب: مش عارف.. بس زمان كان الواحد منكم يمشي ورأسه في السما.. يقول يا ارض اتهدي ما عليك قدي.. دلوقتي ماشيين عينكم في الارض.. مكسورين.. شايلين هموم الدنيا فوق دماغكم.. محدش من اللي بالي بالك بيسأل فيكم.
قلت ممازحا: اللي بالي بالك.. انت كمان بتخاف وبتتكلم بالرمز.
قال وكأنه يزيح تهمة عن نفسه: لا يا حبيبي.. انا خايف عليك انت.. اجر رجلك في الكلام وتقول ما لاتحمد عقباه.. انا في الاول والآخر خروف.. مش فارقة معايا.. يشتريني وزير او خفير.. الاثنين في الآخر حيذبحوني.. يعني كده كده.. ميت، قل لي حاخاف من ايه وعلى ايه.. الله يكون في عونكم انتم.
قلت له: شكلك كده عايز تقلبها سياسة.
قال: ما هو جنابك من اول ما فكرت تعمل معايا موضوع صحافي وانت ناوي عالسياسة.. بالله عليك فيه حد يعمل حوار مع خروف الا اذا كان عايز الخروف يقول اللي هو كبني ادم مش قادر يقوله.. عشان لو حد حاسبك تقوله ده رأي الخروف.. بس ياحلو ساعتها مش حانفعك لانهم حيقولولك هو الخروف بيتكلم يا حمار؟
قلت له مستاء: لاحظ انك لتاني مرة تغلط وانا ساكت.
قال: انت زعلان من كلمة حمار.. ده محدش اعطى للحمار قيمة الا انتم.. متهيألي فيه كاتب كبير ألف كتبا عن الحمار عشان في الآخر يقول يا ريتنا كلنا حمير.
قلت: والله عندك حق.
نظر الي وكأنه يعتذر: بس انت كده شكلك زعلان.
قلت: حد يزعل من خروف؟
قال ضاحكا: ماشي.. هعديهالك المرة دي.
قلت: صدقني.. ماقصدش اهانتك.
فرد بحدة: وانت تقدر؟
قلت وقد بدأ صبري ينفد: وبعدين ياعم الخروف.. انت حتقلبها خناقة؟
قال: لا خناقة ولا يحزنون.. انا بس عايزك تعرف الحقيقة.
سألته: اي حقيقة؟
قال: انا كخروف افضل منك.. شوف سعري النهارده كام عشان واحد يشتريني ويذبحني.. وشوف انت – ربنا يديك طولة العمر – لو مت في حادث مثلا.. الدولة حتقدرك بكام.. ثم مضى يقول وانا مطرق الرأس كأنه اصابني في مقتل: التضحية بي لها معنى عظيم.. عظيم جدا.. وربما – مع اني لم اجرب ولم تتح لي الفرصة لأسأل من سبقوني – اقول ربما يخفف الله علي لحظة الذبح فلا اشعر بها او ربما اسعدتني.. لكن التضحية بالبني آدمين عندكم لها معنى آخر.. اسمح لي اتجرأ واقولها لك.. معنى قذر لا يرضى به خالقي وخالقك.. انتم تضحون بالفقير ليعيش الغني.. سمعت كثيرا ان هناك قضايا تورط فيها ناس كبار وشالها مرغما واحد مسكين مقابل قليل من المال ليس في جيبه لحظتها واحد على الف من هذا المبلغ.
ثم مضى يقول وكأنه يعطيني محاضرة: فكرتني بجملة شهيرة اسمعها كثيرا في الافلام المصرية: احنا ضحينا بالمولود عشان الام تعيش.. مع ان المنطق يقول انه ان كان لابد من التضحية، فلنضحي بالام وليس بالمولود.. فالمولود هو المستقبل.. فكيف نضحي بالمستقبل من اجل حاضر اعمى البصر والبصيرة.. منطق غبي.. بس انتم تستاهلوا اللي بيحصل لكم واكتر منه.
وكأن الحوار صار من طرف واحد.. الخروف يتكلم وانا مطرق الرأس «خزيان» مما يقوله فبقيت مدة غير قليلة لا اتكلم حتى بادرني هو وكأنه يعيدني الى حضرته: انت رحت فين يا استاذ.. واضح ان كلامي في الصميم.. ووجعك.
قلت له: كيف وصلتك اخبارنا على هذا النحو من الوضوح؟
قال: المسألة بسيطة.. لي عين بشوف بيها.
قلت: وانت شايفنا بكل هذا الخضوع والخنوع للامر الواقع؟
رد: انتم صعبانين عليا.. واحد مثلي مرغم لا يملك من امره شيئا.. اللي يدفع يشتري ويذبح.. و«حلال».. لكن انتم ميزكم الله بعقل وفكر للأسف لم يفدكم او تحاولون الاستفادة منه بشيء.
قلت له وقد نفد صبري بالفعل: انت عايز ايه بالضبط؟
قال وهو يضحك: السؤال ده تسأله لنفسك، واذا عرفت تجاوب عليه يبقى فيه امل.
سألته: امل في ايه؟
... وفي هذه اللحظة رأى الخروف احد المشترين يقترب منه وسأل البائع عن سعره، فصمت عن الكلام لثوان حتى يعرف مصيره.. ثم والبائع يجره ليسلمه لصاحبه الجديد نظر الي مودعا ومبتسما كأنه ذاهب الى الخلاص من دنيا لا يسعده العيش فيها ولا تشرفه الحياة والتعايش مع من عليها.
نظرة او جعتني وجعلتني اندم ان فكرت في هذا الحوار، فقد كشف لي الخروف الحقيقة التي اعرفها يقينا، لكنني ومثلي ملايين نغمض اعيننا عنها حتى نوهم انفسنا بأنها ليست على هذا النحو من الذل والمهانة.