- وحدة الكلمة سبب كل خير والفرقة والخلاف سبب كل شر
- من كمال الدين وكياسة العقل وسلامة الفهم ألا ينساق المرء مع من يريد تصديع وحدة الأمة
- لزوم الجماعة والتزام الطاعة المخرج من الفتن المستحكمة والبلايا المدلهمة
- ينبغي شكر الموجود وعدم التركيز على التفكر في المفقود
- مجانبة الاعتدال تؤدي إلى الخلاف والتركيز على الأخطاء اليسيرة يسبب النزاع
- مسؤولية الناصح تقديم النصيحة المخلصة وصاحب القرار له آليته ومؤسساته في صنع القرار واتخاذه
- على الدولة العناية بحفظ حقوق الناس وحرماتهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وكرامتهم في شفافية ورحمة وعدل وإحسان
اسامة ابو السعود
أكد إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة فضيلة الشيخ د. صالح بن حميد انه ليس أشد ضراوة على الأمة وعلى استقرار الديار من اختلاف الكلمة وتنافر القلوب وتنازع الآراء، مشددا على ان وحدة الكلمة سبب كل خير والفرقة والخلاف سبب كل شر.
وتابع د.بن حميد خلال خطبة الجمعة التي حضرها الآلاف أمس بمسجد الدولة الكبير يتقدمهم وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية د.عادل الفلاح وعدد من الوكلاء ومسؤولي وزارة الأوقاف ان من كمال الدين وكياسة العقل وسلامة الفهم الا ينساق المرء مع من يريد تصديع وحدة الأمة لما قد يرى من ظلم وقع او حق انتقص لان من فقد بعض حقه في حال الوحدة سيفقد كل حقه اذا وقعت الفرقة، ولن يأمن - والله - على نفسه ولا على أهله ولا على عرضه وماله.
وشدد على مبدأ التآخي بين المسلمين حيث أشار إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسس دولة الإسلام في المدينة المنورة، بعد توحيد الله عز وجل، على المؤاخاة، مبينا كيف كان صلوات الله وسلامه عليه شديد الرعاية للأخوة بين المسلمين عظيم العناية بالوحدة بينهم سريع المعالجة لبوادر الخروج عليها.
وعن المخرج من الفتن إذا استحكمت والبلايا إذا ادلهمت يحصره د.بن حميد في لزوم الجماعة والتزام الطاعة، مؤكدا أنه ليس في ذلك مجاملة ولا ممالأة أو ضعف ولكن ذلك من أجل الحفاظ على الدين وعلى الأمة وعلى الأمن والاستقرار وعلى الأهل والنفس.
كما دعا إلى شكر النعم التي أسبغها علينا ظاهرة وباطنة، الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان وغيرها من النعم، مؤكدا على ضرورة الحمد على الموجود وعدم التركيز على التفكر في المفقود وأنه لابد من الحفاظ على هيبة الدولة وهيبة الحكم وهيبة الأنظمة لأنه لا يكون هناك استقرار للدولة وأمن للامة إلا بالحفاظ على الهيبة حفظا للدين والدنيا والأنفس والأموال والاقتصاد والإعمار والصحة والتعليم وكل المرافق والخدمات.
وأشار د.بن حميد إلى أن كثيرا من مواطن الخلاف ينشأ من مجانبة الاعتدال وكثيرا من مواطن النزاع مبدؤها خطأ يسير أو تقصير محدود، مؤكدا على أن تغليط الكبار لا ينبغي أن يجاهر به الأغمار. ومسؤولية الناصح تقديم النصيحة المخلصة والرأي النصوح، وصاحب القرار له آليته ومؤسساته في صنع القرار واتخاذه.
وفي الخطبة الثانية أكد د. بن حميد أن حق الناس مكفول في التعبير والمطالبة بالحقوق وإزالة المنكرات والمفاسد وإيصال الحقوق إلى أهلها، كل ذلك مكفول من غير منة بضوابطه وبالطرق المشروعة والنظامية والقانونية وبما يحفظ البلد وأمنه وأهله وهيبته ووحدته، مشددا على أنه على الدولة العناية بحفظ حقوق الناس وحرماتهم في انفسهم وأموالهم وأعراضهم وكرامتهم في شفافية ورحمة وعدل وإحسان، مع الحرص على ألا يكون أحد فوق الخطأ أو المحاسبة أو المساءلة.
وفيما يلي نص خطبة الجمعة:
الخطبة الأولى
الحمد لله فالق الاصباح، ومجري السحاب، ومرسل الرياح، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة الحق والفوز والفلاح، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبدالله ورسوله، أوضح معالم الهدى، وهدى الى طريق الصلاح، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان ما أغطش ليل وأضاء صباح، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله. ومن استطاع منكم أن يلقى ربه خفيف الظهر من دماء المسلمين، خالي البطن من أموالهم، كافا اللسان عن أعراضهم، لازما لأمر جماعتهم فليفعل، من ترك الحرام وهو قادر عليه فهو الخائف، ومن جد في العمل واجتنب الأماني فهو الراجي، ومن ركن الى حوله وقوته ذل، ومن أُعجب بعمله ضل، ومن اعتمد على ربه وركن الى مولاه فما ذل ولا ضل: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) فاطر 5 - 6.
أيها المسلمون: أسس نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية المنورة دولة الاسلام أسسها عليه الصلاة والسلام - بعد توحيد الله - على المؤاخاة، فكان المهاجرون غرباء الدار اخوة الأنصار ممن تبوأوا الايمان والدار.
وكان عليه الصلاة والسلام شديد الرعاية لهذه الاخوة، عظيم العناية بهذه الوحدة، عظيم الغيرة عليها، سريع المعالجة لبوادر الخروج عليها، اختلف غلامان في إحدى الغزوات، فقال أحدهما: يا للمهاجرين. فقال الآخر: يا للأنصار، فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة» أخرجه البخاري. مع أن لقب المهاجرين ولقب الأنصار ألقاب إسلامية كريمة.
وحينما ضل بنو إسرائيل وعبدوا العجل قال موسى نبي الله وكليمه لأخيه هارون نبي الله وزير أخيه عليهما السلام: (قال يا هارون ما منعك إذا رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري) كان جواب هارون جوابا لطيفا رقيقا حيكما: (قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) طه 92.
ومعاذ الله أن يتهم نبي الله هارون بانحراف المنهج أو التقصير في الموازنات ثم يقره أخوه موسى وهو الذي دعا ربه (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري) طه 29، فأجابه العلي الأعلى: (قد أوتيت سؤالك يا موسى) طه.
يقول الإمام البغوي - رحمه الله - بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين، والألفة، والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة.
معاشر المسلمين: وليس أشد ضراوة على الأمة وعلى استقرار الديار من اختلاف الكلمة، وتنافر القلوب، وتنازع الآراء، وحدة الكلمة سبب كل خير، والفرقة والخلاف سبب كل شر.
إن من كمال الدين، وكياسة العقل، وسلامة الفهم ألا ينساق المرء مع من يريد تصديع وحدة الأمة لما قد يرى من ظلم وقع، أو حق قد انتقص، لأن من فقد بعض حقه في حال الوحدة سيفقد كل حقه إذا وقعت الفرقة، ولن يأمن - والله - على نفسه ولا على أهله ولا على عرضه ولا ماله.
لنا اخوة أعزة في بلاد مجاورة - لطف الله بهم وحفظهم وأعانهم على ما يعانون - تفرقت كلمتهم، وفقدوا استقرارهم، وانفرط عقد وحدتهم، ففارقوا ديارهم، وتشردوا مخلفين وراءهم دورهم، وأموالهم، وزروعهم، وتجاراتهم، تركوا الغالي والنفيس، ينشدون الأمن والاستقرار، يعيشون مغتربين مُعدمين.
مع التشرد والخوف والفرقة لا قيمة للدور ولا للقصور ولا للأموال ولا للعقار، أتراهم ينزحون من ديارهم لو وجدوا مستقرا وأمنا؟
حين فقدوا استقرار الدولة حلت في ديارهم الفوضى، وفي أجواء الفوضى يتفرق الجمع، ويتخاصم الحلفاء، ويتخندق الفرقاء، ومن ثم يصبح الفشل محيطا بالجميع، ويصير العجز هو النتيجة التي يتحملها الجميع.
معاشر الأحبة: في أجواء الفوضى تولد التكتلات، وتنبت المخالفات، وتلكم هي معاول الهدم، وقوة الهدم أقوى من قوة البناء وأبلغ وأسرع.
في الفوضى وعدم الاستقرار تذوب المعايير الضابطة، وتغيب السياسات العاقلة، وتذهل الآراء الواعية، ويكون التناقض هو المسيطر، والاضطراب هو السائد، والضياع هو المهيمن، إن غوغائية الجماهير هي الطريق السريع الى الفوضى.
ونعوذ بالله من فتن تدع الحليم حيران، فالإنسان في أجواء الفتن قد يظن أن لديه إيمانا يعصمه، أو عقلا الى الرشد يهديه، ولكن مع الفتن وبخاصة تقنيات العصر الجارفة، ووسائله الطاغية، وتغريداته المضطربة لا يشعر إلا وقلبه قد تشرب ما تشرب، فإذا هو قد زُج في نارها، وغارق في لجتها، وأحرقه لهيبها، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ألم تفقهوا توجيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يحذر من فتنة المسيح الدجال، مع أنه قد بين لنا أوصافه، وذكر لنا علاماته بما لا يلتبس ولا يشتبه، ومع هذا كله فإننا نستعيد بالله منه في صلواتنا كلها، وقال: ان خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وكل حجيج نفسه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
معاشر المسلمين: وليس هناك مخرج من الفتن إذا استحكمت، والبلايا اذا ادلهمت إلا لزوم الجماعة والتزام الطاعة، وقد قال ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة.
ولزوم الطاعة والتمسك بالجماعة ليس مجاملة، ولا ممالاة، ولا ضعفا، ولا مداهنة، ولا معاوضة، ولكنه والله من أجل الحفاظ على الدين وعلى الأمة وعلى الأمن والاستقرار وعلى الأهل والأنفس.
«من رأى من أميره ما يكره فليصبر فإن من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» متفق عليه.
إخوتي في الله: ونحن في هذه البلاد في خليجنا هذا الجزء العزيز من ديارنا، الدين هو الظاهر والتدين وافر. اسبغ الله علينا نعمه ظاهرة وباطنة، صحة في الابدان، وامنا في الاوطان، غذاء وكساء ودواء وصحة وتعليم، تمشي على قدميك وقد بترت اقدام، تنام ملء عينيك وقد اطار الخوف والهلع النوم عن قوم كثيرين.
امن وافر، وعافية سابغة وقد نغص الألم والخوف مشردين.
بلاد آمنة مستقرة يفد اليها الوافدون، ويرغب فيها الراغبون، يبذلون الغالي والنفيس لسكناها، والعيش فيها ابتغاء ظل امنها الوارف، وعيشها الكريم، لماذا يتفكر غافلون في المفقود، ولا يشكرون الموجود؟
لا بد من الحفاظ على هيبة الدولة، وهيبة الحكم وهيبة الانظمة.
عباد الله: ولا يكون استقرار الدولة وامن الأمة إلا بالحفاظ على الهيبة حفظا للدين والدنيا والانفس والاموال والاقتصاد والاعمار والصحة والتعليم وكل المرافق والخدمات.
يجب استصحاب حفظ الدولة ووحدة الامة في اي تحرك او نظر او تفكير او مطالبة.
وما اجدر الغيورين على وحدة الامة ومصالحها واستقرارها ان يمسكوا عن كثير عن الوان الجدل واللغط الذي تموج به الساحة.
ان كثيرا من مواطن الخلاف ينشأ من مجانية الاعتدال فيرى المنتقد انه ما دام على الحق فهذا يسوغ له ان يقول ما شاء، ويفعل ما يشاء متى شاء وكيف شاء وتلكم هي الغفلة القاتلة.
وكثير من مواطن النزاع مبدؤها خطأ يسير او تقصير محدود فيغذيه الهوى، وينفخ فيه الغلو، ناهيك بمن يعتقد التلازم بين الغلظة على من اخطأ والحمية على الدين، وتغليط الكبار لا ينبغي ان يجاهر به الاغمار.
معاشر الأحبة: ان مما يُدعى اليه طلبة العلم واهل الفضل والصلاح واصحاب الرأي والفكر والنظر وكل المقتدى بهم ان يكونوا قدوة لطلابهم واتباعهم ومتابعيهم في الحرص على وحدة الامة وهيبة الدولة بل ان يكونوا قدوة في التنازل عن بعض حقوقهم الشخصية من اجل هذا الهدف السامي العظيم.
والمسؤولية مشتركة حكومة واعلاما وشعبا في التعاون وسلوك سبيل المؤمنين وهدي الشرع ورعاية الانظمة وتحقيق العدل والرحمة والاحسان والحزم.
وبعد - حفظكم الله - فليعلم ان مسؤولية الناصح تقديم النصيحة المخلصة والرأي النصوح وصاحب القرار له آليته ومؤسساته في صنع القرار واتخاذه.
واهل العلم والرأي والناصحون تختلف وجهات نظرهم وآراؤهم، وكلهم مجتهدون ناصحون مخلصون وصاحب القرار يستمع من الجميع ويتفهم ما يتقدم به الجميع، ويتخذ من خلال الآليات والمؤسسات ما يراه محققا للمصلحة، وحافظا للدولة وخادما للامة، والناصح وذو الرأي وصاحب القرار كلهم غير معصومين، واذا علم الله منهم صحة الديانة وصدق النية والاخلاص سددهم ووفقهم وهداهم للتي هي اقوم، واثابهم على خطاهم وعلى صوابهم، فمسؤولية الجميع الصدق والنصح، وبذل الجهد قدر المستطاع اما الصواب فيهدي اليه الله من يشاء (والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يأيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه، وانه اليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب واذكروا اذا انتم قليل مستضعفون في الارض تخافون ان يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيب لعلكم تشكرون.. الأنفال 24-26).
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما افضل وانعم واشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له الواحد الاحد الاعز الاكرم، واشهد ان سيدنا ونبينا محمدا عبدالله ورسوله ذو الخلق الأسمى، والنهج الاقوم صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وأتباعه وسلم.
اما بعد: فحق الناس مكفول في التعبير والمطالبة بالحقوق وازالة المنكرات والمفاسد ورفع الظلم وايصال الحقوق الى اهلها، كل ذلك مكفول من غير منة بضوابطه وبالطرق المشروعة والنظامية والقانونية وبما يحفظ البلد وامنه واهله وهيبته ووحدته وبما يمنع تدخل اهل الفضول والاغراض والاغراب، وعلى الدولة العناية بحفظ حقوق الناس وحرماتهم في انفسهم واموالهم واعراضهم وكرامتهم في شفافية ورحمة وعدل واحسان يحاسب الكبير كما يحاسب الصغير ويجازى الرئيس كما يجازى المرؤوس وليس احد فوق الخطأ او النقد او المحاسبة او المساءلة.
مع اصدار الاحكام العادلة بما تقتضيه الاجراءات العادلة، والعدل هو سبيل الأمن وقاعدته وبوابته.
الا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واعتصموا بحبل الله جميعا وكونوا عباد الله اخوانا وانصحوا وأخلصوا لدينكم ولانفسكم ولأوطانكم ولولاة اموركم.