الحمد لله الي تفرد بالبقاء وكتب على عباده الفناء، جعل الدنيا دار امتحان وابتلاء، والآخرة دار نعيم او شقاء بلا امد ولا انتهاء، واشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك الا وجهه، له الحكم واليه ترجعون.
أما بعد،،،
فلا شك أن موت العلماء والدعاة والمصلحين خطب جلل ورزية عظيمة وبلاء كبير، اذ الاشخاص كلما كان دورهم عظيما واثرهم كبيرا كانت المصيبة بفقدهم اشد.
وشيخنا الفقيد من احق الناس بأرثى بيت قالته العرب وهو قول عبدة بن الطبيب:
وما كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ
ولكنَّه بُنْيَانُ قومٍ تَهَدَّما
لكنها سنة الله الجارية والماضية في عباده، الموت لا محيد عنه ولا مفر، لكن فرق كبير بين موت انسان من عامة الناس لا يشعر بفقده الا اهله واقاربه فيترحمون عليه ويدعون له بالمغفرة، وبين موت علم من اعلام الخير والدعوة، يستفيد الناس من علمه وفتاواه، ودعوته وتوجيهه.
لقد رزئت الكويت البارحة في فاجعة مهيبة بفقيد العلم والخلق والسماحة والابتسامة طلق المحيا، شيخنا العالم الداعية د.وليد العلي العميد المساعد لكلية الشريعة، رحمه الله رحمة واسعة، وصاحبه الوفي الداعية فهد الحسيني، رحمه الله، في هجوم غادر، نسأل الله أن يمكن من الظلمة فينالوا جزاءهم في الدنيا قبل الآخرة.
لقد قضى البارحة شيخنا الاستاذ الدكتور الشيخ وليد بن محمد بن عبدالله العلي، رحمه الله، نحبه وهو في رحلة علمية دعوية، في افريقيا، لم يذهب لتجارة ولا لجمع مال ولا شهادة دراسية يرجوها بل خرج داعيا الى الله على بصيرة هكذا نحسبه والله حسيبه.
لقد كانت معرفتي بالفقيد قبل خمسة عشر عاما او يزيد في اول محاضرة دخلها علينا معرفا بنفسه الكريمة، رحمه الله، قائلا: انا اخوكم وليد العلي، خريج الجامعة الاسلامية في المدينة النبوية في مراحلها الثلاث.
درس شيخنا الفقيد في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة، وحصل في العام 1998 على «جائزة المدينة المنورة» في مجال النبوغ والتفوق الدراسي.
وواصل دراسته العليا وحصل على درجة الماجستير من كلية اصول الدين في الجامعة الاسلامية باشراف شيخه الاستاذ د.عبدالرزاق البدر، وانجز ايضا رسالة الدكتوراه في الجامعة نفسها برسالته النافعة «جهود الامام ابن القيم في تقرير توحيد الاسماء والصفات».
في 20/7/1424هـ واصل تقديم بحوث الترقية حتى حصل على درجة الاستاذية في تخصص العقيدة، وهو بهذا الانجاز يعد اول كويتي يحصل على هذه الدرجة العلمية في هذا التخصص، وهذا سبق علمي يسجل ويضاق اليه، رحمه الله، ثم الى كلية الشريعة التي ينتسب اليها، ثم الى جامعة الكويت، والمجتمع الكويتي بشكل عام.
ولم يكتف بالدراسة النظامية في الجامعة، فقد كان من مشايخ الفقيد: العلامة عبدالمحسن العباد محدث المدينة وعلامها، وابنه الشيخ عبدالرزاق البدر، والشيخ حماد الانصاري، رحمه الله، وله سند عالٍ في القرآن من مسند وقته العلامة الشيخ الزيات، رحمه الله، والشيخ اللغوي الكبير عبدالرحمن بن عوف كوني وغيرهم الكثير.
ثم لما رجع الى الكويت بدأ التدريس في كلية الشريعة في تخصص العقيدة، نعم لقد كان عمره في كلية الشريعة قصيرا، لكن عطاءه والله كان كبيرا وواضحا ومؤثرا، وقد تم تكليفه رسميا بإمامة وخطابة المسجد الكبير بالجُمع والجماعات، وهو بذلك يعد أول إمام وخطيب كويتي يتولى هذه المهمة.
فنحن عندما نبكي الشيخ نبكي ذاك العلم والادب الجم والحلقات العلمية والاهتمام بالطلبة والاعتناء بطلبة البعوث خاصة، نبكي الشفاعة لدى المسؤولين والسعي في حاجات الإخوان، فقد بدأ اول مقدمة للكويت بعقد سلسلة قراءة كتب ومؤلفات العلامة ابن سعدي والتعليق عليها، ثم لما أتمها بدأ بالسلسلة الاخرى التي تفتقده رحمه الله وهي سلسلة «حفظ الوقت الثمين بقراءة مؤلفات العلامة العثيمين»، وهو مشروع قراءة وتعليق على كتب العلامة العثيمين، رحمه الله.
لقد كان شعلة من النشاط العلمي والدعوي وبعث النهضة العلمية في الكويت وتنشيطها، فهو المشرف العام على مسابقة (العلم المصون في حفظ المتون).
وترك شيخنا، رحمه الله، ثروة علمية جعلها الله من الصدقة الجارية له بعد موته، فبالاضافة لمؤلفاته الخاصة فقد قدم اثني عشر بحثا علميا متنوعا تم تحكيمها ونشرها في مجلات اسلامية متخصصة داخل الكويت وخارجها وهي:
1- مخاطر الارهاب واثره في تشويه صورة الدين والمتدينين.
2- القراءات العشر المتواترة وارتباطها بمسائل الاعتقاد.
3- الاخلاق واثرها في الاداء الوظيفي.
4- المسائل المروية عن الإمام احمد بن حنبل في الصحابة وأهل البيت.
5- برهان الصدقة على الإيمان.
6- حقوق الخدمة الانسانية.
7- فقه أولويات الاصلاح والتغيير.
8- المقاصد العقدية لآية الكرسي.
9- ضوابط التكفير وشروطه.
10- دور الجامعات الاسلامية في تحقيق الامن الفكري في المجتمع.
11- دلالات مناسك الحج على مراتب الدين.
12- اثر الالتزام بالأخلاق الاسلامية في تحلي سائقي المركبات بالآداب المرورية.
ماذا عساي ان اقول عن شيخنا الجليل وهو موعظة في حضوره ومؤثر في غيابه عليك سحائب الرحمات فقد كان رحمه الله اينما توجهه يأتي بخير.
وكانت في حياتك لي عظات
وانت اليوم اوعظ منك حيا
نحن لا نبكي لحمه ودمه فهذه نحتسبها عند الله عز وجل.
فذلك في ذات الإله وان يشأ
يبارك على اوصال شلو ممزع
نبكي تلك المآثر من الخير والدعوة والعلم، نبكي ابتسامة يستقبلك بها تجلو عن القلب العمى والهم والغم.
وحق للكويت واهلها والمصلحين في كل مكان ان تحزن لفقدهم لأن بذلك فتحا لثلمة في جدار الاسلام والمسلمين وضررا للديار، ونقصا في الارض، قال تعالى: (اولم يروا أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها) - الرعد: 41، قال ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها.
فلا غرو بعد لك ان يكون بقاء العلماء والدعاة والمصلحين نعمة من الله، وذهابهم مصيبة تصيب الأرض واهلها، وثلمة في الدين لا يسد شيء مسدها، فبموت العلماء والدعاة وفقدهم تكمن المصيبة، وتعظم الرزية، وتخرب الدنيا، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «موت العالم ثلمة في الاسلام لايسدها شيء ما اختلف الليل والنهار»، وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس قال إذا هلك علماؤهم.
وتصديق ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (ان الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
مات الشيخ رحمه الله لأن الموت لا يستثني احدا ولا يعرف عالما او جاهلا فليس لأحد منه مفر او مهرب فهو يدخل على الجميع بلا استئذان ويأتي بغتة الى كل انسان فلنعد له ولنستعد للقائه بالتوبة النصوح وفعل الخيرات وترك المنكرات (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (الاعراف: 34) (النحل: 61).
ما الفخر الا لأهل العلم انهم
على الهدى لمن استهدى ادلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم اعداء
ففز بعلم تعش حيا به ابدا
الناس موتى وأهل العلم أحياء
مبشرات الخاتمة:
يا أبا وليد ويا أم وليد، ويا أم فهد ويا أبا فهد لا تحزنوا وأملوا من ربكم خيرا فكل أهل الكويت بل كل محبي الخير في العالم يشاركونكم المصاب، وإن مما يخفف الخطب ويبعث الأمل في النفس، بعد حسن الظن بالله هذه الوقفات مع وفاة الفقيدين.
أولا: قال الله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً). النساء: 100.
فقد خرج الفقيدان للدعوة إلى الله فنرجو الله، عزّ وجلّ، ان يكون وقع اجرهما عليه سبحانه عظيم العطاء والمن.
ثانيا: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير». رواه الطبراني وهو في صحيح الجامع 1838.
ثالثا: ثناء الناس عليهما، فقد ثبت عن انس بن مالك رضي الله عنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «وجبت» ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت»، فقال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض». رواه البخاري ومسلم.
رابعا: إن حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، فقد كانت آخر أعمال الفقيدين الدعوة إلى الله، وبذل العلم فقد انهى شيخنا شرح كتاب التوحيد، وأسلم على يديه رجل ثم ودع الدنيا وهذه بشرى خير فعن انس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله» قالوا: كيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح قبل موته» رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اراد الله عزّ وجلّ بعبد خيرا استعمله قيل: كيف يستعمله؟ «يوفقه لعمل صالح قبل موته» رواه الترمذي وصححه الالباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إدا أراد الله عز وجل بعبد خيرا عسله قيل وما عسله قال يفتح الله عزّ وجلّ له عملا صالحا قبل موته ثم يقبضه عليه» رواه احمد وصححه الألباني.
خامسا: إن مآثر الفقيدين كثيرة رحمهما الله، وقد نعي فجر يوم الثلاثاء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كرسي العلم شيخنا رحمه الله فقد ذكر وفاته شيخه الشيخ عبدالرزاق البدر في درس الفجر وبكى متأثرا لذلك وأوقف الدرس، هذه والله المآثر يذكر على كرسي الحرم ويبكى عليه رحمه الله رحمة واسعة.
سادسا: لقد قضى نحبهما الفقيدان وهما ينويان الخير مستقبلا، فقد عزما على الحج هذا العام وعزم شيخنا، رحمه الله، على إقامة دورة علمية بعد الحج، فهو يلقى الله، عزّ وجلّ، بهذه النية، قال ابن مفلح رحمه الله: «قال عبدالله بن الإمام احمد لأبيه يوما اوصني يا أبت فقال: يا بني انو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير وهذه وصية عظيمة سهلة على المسؤول سهلة الفهم والامتثال على السائل وفاعلها ثوابه دائم مستمر لدوامها واستمرارها وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعا سواء تعلقت بالخالق او بالمخلوق وأنها يثاب عليها ولم اجد في الثواب عليها خلافا» الآداب الشرعية 1/133.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نشكر صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الاحمد، حفظه الله، على مبادرته الكريمة، وتوجيهه بإرسال طائرة أميرية لجلبهما لبلدهما رحمهما الله.
وأخيرا نقول: إن هول الفاجعة، وشدة المصاب، تقتضي كمال الرضا بالقضاء والقدر، وحسن التصرف بالأمور، وألا تغلب العواطف على العقل، وإن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، فنسأل الله ان يرحم الفقيدين ويجبر مصاب أهلهما.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
تلميذ الشهيد د. وليد العلي وإمام وخطيب في وزارة الأوقاف