(1)
كل ما في الرواية من حلب، حلب المدينة العريقة العظيمة، ملتقى الحضارات، والتجار والقوافل، وخط الحرير وكثير من عظماء التاريخ.. حلب من مدن الحضارات العريقة المعدودة في التاريخ، صمدت وتصمد أمام أعتى وأشرس الهجمات، وظلت وبقيت لتشهد على عظمة الإنسان إذا أحب أرضه، وأخلص لها.
ورواية «رأس الرجل الكبير» عن شخصية واحد من أبناء قرية تل مرديخ الواقعة على الطريق من حلب إلى إدلب، وهو صهيب الذي غادر قريته ليدرس في جامعة حلب، ولكنه يجيد الرسم والنحت، وصادف أن التقى بعادل زميله في الجامعة الذي آثر أن يغادر بعد سنوات للعمل في إحدى دول الخليج، لكنه كان يعود في الصيف ليلتقي صهيبا ويتحادثا في الماضي بعد أن اصبح صهيب الطالب الفقير واحدا من أثرياء حلب، وانتقل من غرفة متواضعة في حي بستان الزهرة إلى حي الشهباء أرقى أحياء حلب في دارة (فيلا) كبيرة وذلك من تجارته بالآثار الحقيقية والمزيفة، ومنها تجارته برأس الرجل الكبير موضوع الرواية.
وقصة ذلك أن صهيبا التقى وسيطا يعمل في بيع الآثار، عرفه إلى تاجر كبير لها يدعى «السبع»، وهو صاحب عصابة كبيرة لتهريب الآثار وبيعها، واتفقا على أن يبحث له عن رأس تمثال الملك الأموري «إيبيط» الذي بقي مدفونا في قريته تل مرديخ على حين عثر علماء الآثار على الجسد كله، والفرصة سانحة للحصول على ثروة كبيرة مقابل العثور على الرأس.. وتعيش الفكرة في رأس صهيب الذي أوقف دراسته عاما كاملا ليحقق هذا الهدف، وبدأ بالحفر في مختلف الأماكن من تل مرديخ، وهناك صادف واحدا من جماعة «السبع» يدعى أسعد، وهو فنان يقيم في كوخ خاص به هناك، وبعد محاورات ومحاولات يعثر صهيب على الرأس وينقله إلى مكان إقامته مربوطا بين فخذي الحصان الذي يملكه، ولكنه اضطر لإخبار أسعد بالأمر وأنه قرر ألا يسلمه للسبع بل سيسلمه نسخة مزورة سيصنعها بيديه وينجح في ذلك، ويصبح من أغنياء المدينة من وراء هذا الرأس المزور، ويخفي الرأس الحقيقي في قصره الجديد في حي الشهباء الحلبي، وهكذا تنتهي الرواية التي نجح فرزات من خلالها في تقديم صورة مؤسفة ومؤلمة لهذا الصهيب وأمثاله الذي أصبح يعيش بعد ذلك في قلق وخوف دائمين لأنه يحس أن ما جناه من ثروة جاء نتيجة جريمة، فهو حرام لذلك اخترع طريقة للتكفير وهي أن يقيم في غرفته الفقيرة في حي بستان الزهرة أسبوعا من شهر سبتمبر من كل عام، متنكرا بفقره، يحسن إلى الناس ويساعدهم.. وقد حقق الكثير، ولكن هل نجح في الحصول على الراحة والغفران؟ أبدا فالحياة لا ترحم المجرمين.
(2)
هذا السرد المشوق من البداية إلى النهاية التي يحسمها الكاتب ولم يذكرها صراحة تخللته ومضات اجتماعية هدفها زيادة التشويق وإثارة القارئ، وهي ومضات اجتماعية لا يعرفها على ما أظن سوى المجتمع السوري عامة، والحلبي خاصة منها، الحديث عن زواج كثير من المسلمين بمسيحيات، أو نشوء علاقات حب بين مسلم ومسيحية كالذي حدث بين عادل المسلم ورولا المسيحية من دون أن تثار نعرات طائفية سببها أنه لماذا لا يحدث العكس فيتزوج المسيحي من المسلمة وكأن الأمر مسلمة لا جدال فيها، هكذا يعيش المجتمع السوري في سلاسة وسهولة بعيدا عن أية أضغان أو حتى أحاديث طائفية أو عنصرية، وكأني بالكاتب يريد بهذا أن يرد على من يثير الطائفية والعنصرية بين أطياف المجتمع السوري في السنوات الأخيرة، بل إني أراه قد جعل صهيبا وزمرته ضمن المفسدين في الأرض، وربما رمزا لأنواع الفساد الأخرى التي بدأت لحظات الحساب والعقاب تلاحقها لتبدأ في حساب أنفاسها الأخيرة.
ومن هذه اللمحات الفنية الذكية ما أورده من جزئيات هي من فتات الحياة الحلبية الصور التي تمثل طبقة المسحوقين في المجتمع الحلبي، ومنها صورة حمو، وأم صطيف، والزوجة الحامل وزوجها، وطفلة تسقط في الطريق.. الذين قدم لهم صهيب مختلف أنواع العون والمساعدة في «أسبوع الفقراء» الخاص به، وكأني به يقول: ان جوع هؤلاء الفقراء من غناك يا صهيب، ومن غنى أمثالك الذين أثروا على حسابهم وعلى حساب الوطن، ومنهم كذلك مأمون الماوردي التاجر الخادع الذي خدع الناس واستثمر أموالهم ثم ولى بها فرارا من حلب إلى دولة مجهولة، وهو يمثل فئة غير قليلة قامت بالعمل نفسه، واستغلت قلة ما لدى الناس من مال، وحاجتهم إلى الاستثمار، فجمعت أموالهم بحجة الاستثمار، ثم ولت بعد أن هربتها خارج البلاد.
ومنها صورة أولئك المطبلين المزمرين لأصحاب السلطة ولاسيما في حقبة الانقلابات السياسية التي شهدتها سورية ومنهم سمور للطبال وأبو جمال المناضل وهما وجهان رخيصان لعملة واحد في سوق الفساد السياسي والاجتماعي.
ومن ذلك أيضا أمر قد لا يدركه سوى الناقد الحلبي يتمثل في عدد من الأسماء المختارة للشخصيات الرئيسية والثانوية، فصهيب وقدري وأسعد أسماء مألوفة بين أبناء حلب، ولكن كلا منها يمثل شخصيات طغت سمعتها في المجتمع الحلبي سياسيا ودينيا واجتماعيا وفنيا وللتوضيح أقول إن أسعد الفنان قد يرمز لأكثر من فنان تشكيلي حمل الاسم نفسه، وكذلك قدري فقد يكون رمزا للفنان العظيم صبري مدلل، وأما صهيب فقد يكون رمزا لأكثر من صهيب كان له دور بارز في حياة أهالي حلب!
(3)
لقد برزت حلب وطغت على الرواية من المبتدأ إلى المنتهى، وعلى كل جزئية كبيرة أو يسيرة، وعلى الرغم من أن الكاتب عدنان فرزات من أهالي مدينة حماة لكنه أثبت معرفة دقيقة ورائعة بمدينة حلب، تجلى ذلك في كل ما ذكرناه وفي معرفته بالأحياء الشعبية خاصة، ومنها حي بستان الزهرة الذي يقع قبالة الداخل حلب عن طريق دمشق، حيث ضريح الجندي المجهول، وبالقرب منه الملعب البلدي، وغير ذلك من المعالم المعروفة، يضاف إلى ذلك معرفته بالمقاهي الشهيرة التي يتجمع فيها الأدباء والمفكرون والفنانون الحلبيون وضيوفهم من المحافظات السورية الأخرى أو من الدول العربية وغير العربية كمقهى القصر، والسياحي، ومطعم الشلال الذي يبعد قليلا عن الأماكن الأخرى، الأمر الذي وهب الرواية طابع الصدق الواقعي في تصوير الحدث في الزمان والمكان، لذلك قال الكاتب عن حلب انها «مدينة تعطي كل شيء حقه، مثل امرأة ملتزمة لكنها تجيد التبرج لزوجها في الليل كما يجب، حلب مزيج من كل شيء، تماما كما لو ملأت جيبك بحبات من ألوان مختلفة، وفي كل مرة تسحب يدك من جيبك، تخرج بحبة ذات لون جديد».
وهذا القول ينطبق على الكاتب الذي نجح بذكاء وفن وحسن تعامل، في الخروج من حلب بكل هذه الجزئيات الفنية والاجتماعية المصقولة بقلمه، وبهذه الرواية.
لهذا قلت إن هذه الرواية أنضجتها حلب، وشكلت، بعمقها التاريخي والفكري والاجتماعي والبشري والحضاري، مكوناتها الأساسية، ثم جاء دور الكاتب في التعامل مع هذا المكونات، ومنحها الثوب الخاص بمكوناته وفكره.
(4)
لغة عدنان فرزات، في هذه الرواية لغة رواية بحق، تناسب أحوال السرد، والحوار، وتحليل الشخصيات، بما تملكه من فصاحة وسهولة ووضوح، فهو ينأى عن العامي جهده، ويحرص على استخدام اللغة الفصيحة حرصا كبيرا، ويجعلها، بهذه السهولة، من عناصر الجذب والتشويق، يضاف إليها ما عرف عن الكاتب من عشق لصوغ العبارات ذات الطابع الإيجازي، وربما الحكمي، التي تحمل ما تحمل وراءها من دلالات يترك للقارئ أمر كشفها وفهمها، منها على سبيل المثال قوله «للذكاء جاذبية توازي جاذبية الجمال بدليل أن روان كلما ضحكت يرتمي قمر صغير على أحد خديها»!