د. علي الجعفري
اعلموا أيها الإخوة الكرام أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام فمن جمع بين الجهادين وصبر عليهما وُفّي أجره بغير حساب، قال كعب: «ينادي يوم القيامة مناد: إن كل حارث يعطى بحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب».
بل ويشفعان له عند الله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان»، وهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته، وأما من ضيع صيامه ولم يمنعه من ارتكاب الآثام فإن هذا الصيام يضرب وجه صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني.
قال بعض السلف: إذا احتضر المؤمن يقال للملك: شم رأسه فيقول: أجد في رأسه القرآن فيقال: شم قلبه فيقول: أجد في قلبه الصيام فيقال: شم قدميه فيقول: أجد في قدميه القيام فيقال: حفظ نفسه حفظه الله عز وجل، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين».
وإليكم نتفا من أخبارهم وطرفا من أحوالهم مع كتاب الله تعالى في رمضان، كان السلــف الصالح رضوان الله عليهم منهم من يختم القرآن في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع وبعضهم في كل عشر، وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
إن لله عبادا فطنا
طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي سكنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
(من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد)، جاء في حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول: هل تعرفني؟ أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وكل تاجر من وراء تجارته، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود مادام يقرأ هذّاً كان أو ترتيلا».
أحباب ديني، هذا شهر عمارة المحراب، هذا شهر تلاوة الكتاب، هذا شهر تخلع فيه خلع الغفران وتتوفر لها الأسباب، هذا شهر يسمع فيه الدعاء ويستجاب شهر الإفاضات والنفحات وعتق الرقاب، عباد الله مصاب الحرمان لا يشبهه مصاب فالبدار البدار قبل غلق الباب وإسبال الحجاب فسبحان من منّ على الأحباب ويسر لهم الأسباب وأشهدهم ما خفي عن غيرهم وغاب، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.