يقولون في علم الاجتماع ان «التغيير عملية ديناميكية تحدث لجميع المجتمعات الإنسانية وتشمل جميل مناحي الحياة»، ويراهن البعض على أن المجتمع الكويتي كأي المجتمعات قد تعرض للتغيير، ولكن بصورة أكبر، فلم تعد الصورة القديمة كما كانت قبل النفط، ولم تعد أخلاقيات أهل شرق وجبله والمطبة موجودة، وأن اللحمة الوطنية الكبيرة التي عرفت عن الكويتيين فترة الاحتلال قد تلاشت تماما، وأصبح منطق المصلحة الشخصية هو المسيطر على الساحة.
ولكني أرى بعين الإنسانية أن معادن المجتمعات تظل موجودة مهما مرت عليها السنوات، فهي كالذهب الذي طمر بالتراب، ولكن بعد استخراجه وتنظيفه يظل ذهبا، وهذه هي معادن الشعوب، وعند الشدائد تظهر الطباع الأصيلة.
هذا ما حدث لمجموعة من الكويتيين وعائلة سعودية كانوا يتلقون العلاج في احدى المصحات الطبية عندما تعرضوا للخديعة من قبل مكتب سياحي لأخوين من إحدى الجنسيات العربية، نظم لهم رحلة لمدينة برلين لمدة يوم ونصف اليوم، وأثناء الرحلة تم تعديل مسارها أكثر من مرة وبحجج مختلفة ليصلوا الى مكان تسلم الأخوين اللذين شاركاهم الرحلة بسيارتهم المرسيدس ويتركوا القافلة لتعود للمصحة.
أدرك الجميع انهم كانوا ضحية حيلة مدبرة من أصحاب المكتب السياحي جعلتهم محبوسين طوال الرحلة داخل الباص، فلم تلامس أقدامهم الأرض إلا في محطات البنزين وفي الفندق.
كابد الجميع من شدة الآلام والإرهاق من الجلوس المتواصل على كرسي الباص ليوم كامل، خصوصا أن اغلبهم يعانون امراضا مزمنة عدا الدسك والخشونة. في هذا الوقت العصيب جدا ظهر المعدن الأصيل لهم، فلقد شعر الجميع انهم اسرة واحدة وأن خوف أي شخص على نفسه وأهله هو خوفه أيضا على جميع أبناء ديرته، اجتهد الرجال لإخفاء غضبهم وردود افعالهم عن النساء رحمة بهم.
كما اجتهدت النسوة على تهدئة الوضع وإظهار جو التفاعل الاخوي الودود، فانبسط الجميع في احاديث منوعة وبأريحية تامة وبخفة دم متناهية، وفي حال ان فقد احدهم اعصابه يسعى الجميع لامتصاص ذلك بتعليقات مرحة جميلة، والظاهرة الغريبة التي برزت التشارك بين الجميع في أنواع الطعام البسيطة كالبسكويت والشيكولاتة او أي نوع من أنواع المكسرات. فقد كان يقوم كل منهم بتوزيعها على الجميع قبل ان يأكل وكأن الجميع يقولون بلسان واحد «اذا اكلتم شبعنا نحن».
كان الرجال يحرصون وبهدوء تام على تجميع القافلة بعضها مع بعض في كل محطة استراحة خوفا عليهم، وكانت تتم إذاعة الأغاني الوطنية مرات ومرات وكأن المجموعة تريد ان تستمد من كلمات وألحان الأغاني الوطنية ما يشد أزرهم ويقوي عزيمتهم.
وعندما بلغ التعب بالجميع مبلغه بدأ حديث الذكريات، فبرز شخص غير معروف إعلاميا كمناضل صلب قدم الكثير من الأعمال الفدائية خلال فترة الغزو العراقي الغاشم وذكريات لمربية فاضلة تركت بصمتها في الميدان التربوي وفنان حمل عشق وطنه في فنه، وحكايات لا تنتهي لأفراد المجموعة ليمر الوقت عليهم بسرعة حتى وصولهم للمصحة.
في اليوم التالي، وفي داخل المصحة، كان الجميع يسلمون بعضهم على بعض بابتسامة وتعليق مرح عن الرحلة، لقد حاولوا ألا يؤثر موقفهم من المكتب السياحي على علاقتهم بعضهم ببعض وعلى مسار يومهم.
ومن لا يعرف الكويتيين سيستغرب هذه التصرفات، ولكنها سلوك أصيل في المجتمع الكويتي، فهم خير مثال للترابط والتلاحم الوطني، فالكويتي قوي ومعطاء، وروحه الأنيقة تتواصل بحرص مع اهل ديرته مهما بلغت خلافاته. «حفظ الله الكويت والكويتيين من كل مكروه».
[email protected]