في بداية السبعينيات دخل شاب مفرع بلا غترة ـ يبدو انه في العشرينيات من العمر ـ ديوان مكتبة مسجد النقي للاستماع كغيره من الحضور الذين جلهم من الشباب الى محاضرات الشيخ علي الكوراني. يبدو انه وجه جديد قادم للتو من أميركا في إجازته الصيفية حيث يدرس، لكنه لفت الانظار بلباقته وبجرأته الادبية، وفي صراحته وقوة طرحه وعمق ثقافته. استمر هذا السمت معه حتى بين المراجع الدينية في الحوزات العلمية، عندما يذهب لزيارة العتبات المقدسة لأهل البيت النبوي عليهم السلام، حتى ان الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر يذكر حواراته فيبادر زواره من الكويت فيسأل عن أحوال الدكتور ناصر صرخوه! وهكذا رأيته في زيارتنا معا لسماحة آية الله السيد السيستاني قبل فترة قريبة. هذه الملكة أهلته لأن يصر عليه جماعة الشباب في مسجد النقي فيقدمونه مع أخويه محسن جمال وسيد عدنان، لتدشين ولوجهم لأول مرة الى ساحة العمل السياسي عبر عضوية مجلس الامة، بعد التشبع من تنظيرات الليالي الشتوية داخل مخيم الغدير القديم على ناصية الكيلو 15 في طريق الوفرة اللزق، وبعد مناقشات ارصفة شارع الخليج تحت أنوار الشبات في الليالي الصيفية بعد محاضرات النقي، وأثناء إعداد عبدالله الصايغ ـ بالقرب منهم ـ الدندرمة المثلجة اللذيذة!
حينها فاجأوا هؤلاء الشباب الناس والإعلام بعدم ارتدائهم للبشت، في جلسة افتتاح مجلس 1981 حتى أسماهم الكاتب المرحوم محمد مساعد الصالح بـ «اللابشتيون»! ولم يسلموا حتى من لوم شياب المسجد! في اجتهاد منهم لتوصيل رسالة مفادها انهم جاءوا خداما وليسوا وجهاء! وضعوا ارواحهم على أكفهم ولم يأبهوا بتهديد طاغية العراق الدموي صدام حسين، الذي كان فرعون عصره يسوم المعارضين له سوء العذاب! عندما وقفوا ضده في مشروع القرض العراقي! محذرين من انقلابه على البلاد كالحية الرقطاء!
يزيدهم صلابة وثقة عدم انفرادهم بالرأي والموقف الا بعد تمحيصه بالتشاور والمناقشة مع جمع من اخوانهم المؤمنين. جرأة ناصر صرخوه في مواجهة من يرى انهم تجاوزوا القانون والمصالح الوطنية، لم تكن جرأة التهور والافتراس، بل جرأة مصدرها التقوى ومخافة الله، لذلك لم يأبه لمغريات المناصب او يجري وراء فرص استباحة الأموال العامة والخاصة، يتورع حتى في الشبهة والمظنة.
عندما يختلف مع احدهم، يصر وقت الصلاة على ان يقدمه اماما للجماعة كرسالة ود ومحبة، وان الاختلاف لا يعني بالضرورة انتهاكا للعدالة الواجبة. دوما اراه مبتسما، سريعا في التقاط القفشات الضاحكة، مستبشرا بالوعد الالهي بنصر الامة على أعدائها. وان كنت اشعر بأنه بلغ به الزهد لدرجة انه توارى كثيرا وراء بريق الإعلام. وطالما وجه إليه اللوم في هذا الابتعاد، لكن كان يكفيه تواصله الاجتماعي مع الناس، وحضوره السياسي مع النخب، وبحوثه العلمية مع العلماء.. كل ذلك بلا انقطاع.
فكان وداعه الأخير لأحبته وزملائه، في الليلة الأخيرة في ديوانية الأكاديميين، مؤكدا لهم أنه معهم صفا واحدا على الحق حتى آخر رمق! وفي الصباح التالي والأخير له في مختبره العلمي بالجامعة، تجرع هذا الرمق، عندما لبى نداء الحق واقفا مطمئنا.. انا لله وإنا اليه راجعون.
****
وتتزامن وفاة ناصر بوفاة المخلد، يوسف المخلد المطيري رعيل المجلس التأسيسي. وان كنا لم نتشرف بزمالته، فأهل الكويت كلهم ممتنون له ولأمثاله من أعضاء المجلس التأسيسي بالتعاون مع القيادة السياسية بإصدار دستور الكويت 1962، الذي بفضل الله مازلنا ننعم في ظله بالحقوق والحريات الدستورية، ولا تزال الاجيال تتوقع المزيد منها.
رحمك الله يا ناصر الحق. رحمك الله يا يوسف المخلد.
[email protected]