دلال مدوه
يحكى أن محركا ضخما ومتطورا تعطل في سفينة تجارية كبيرة، فقام ملاك السفينة باحضار الكثير من الخبراء لاصلاحها، ولكن دون جدوى فلم يستطع أي منهم التعرف على حقيقة الخلل لعدة ايام، مما نتج عنه خسارة آلاف الدولارات يوميا، واخيرا قرروا استدعاء خبير تجاوز الستين من عمره، والذي قضى معظمه في إصلاح اعطال محركات السفن الضخمة، فجاء ومعه حقيبة كبيرة مليئة بالعدد والأدوات، وقام بمجرد وصوله بتفحص المحرك بدقة من اعلاه الى اسفله، وكان هناك اثنان من ملاك السفينة يتابعان ذلك الخبير بقلق، ويتمنيان في انفسهما ان يعرف العلة، ويستطيع اصلاح ذلك المحرك المزعج الذي سبب لهم الكثير من الخسائر.
وبعد ان انتهى من الفحص اتجه لحقيبة معداته وأخرج منها مطرقة صغيرة وطرق برقة عدة مرات على مكان معين في أعلى المحرك فاشتغل المحرك بسرعة وعلا صوته، أخيرا عمل ذلك المحرك العنيد بعد عناء كبير، وتأخير عن العمل دام لمدة اسبوعين، خسر خلالها ملاك السفينة عشرات الآلاف من الدولارات، ثم ابحرت السفينة في رحلة تجريبية قصيرة للتأكد من اصلاح المحرك، وتكللت تلك الرحلة بالنجاح، فقد عمل المحرك خلالها بكفاءة عالية.
وبعد اسبوع تسلم ملاك السفينة فاتورة من ذلك الخبير المخضرم بعشرة آلاف دولار قيمة الإصلاح، فصرخوا قائلين «بينهم وبين أنفسهم»: ماذا فعل ذلك العجوز ليطلب هذا المبلغ الضخم؟!
وقاموا على الفور بإرسال رسالة له يطلـــبون فيها فاتورة مفصلة عن تكاليف الاصلاح. فماذا نتوقــــع رده عليهم؟
لقد ارسل لهم فاتورة كتب فيها تفاصيل الاصلاح وكانت كالتالي: الكشف على المحرك 500 دولار، الضرب بالمطرقة على موضع الخلل 10 دولارات، معرفة مكان الطرق بالمطرقة 9490 دولارا، والمجموع: 10 آلاف دولار.
وإذا تأملنا الموقف السابق وجدنا أن الخبير يستحق ما يطلبه من مال، لأنه اســـتطاع بخبرته النادرة، وحرصـــه على أداء عمله بمنتــــهى الاتقان، ان يتعرف على المشكلة ويحلها، في الوقـــت الذي يعجـــز فيه الآخــرون عن ذلك.
وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمور لدينا، فإذا أردنا أن نقتلع مشاكلنا من جذورها فعلينا الاستعانة بالمبدعين والمختصين من الشباب وذوي الخبرة من العارفين ببواطن الامور، والذين يستطيعون الوقوف وتأمل الوضع الحالي بمنتهى الدقة، ويتلمسون مواضع الخلل بكل اهتمام وعناية، ويعملون على اصلاحها بحرفية ومهنية.
ولو رغبنا بالنجاح الحقيقي في الاصلاح، فمن الضروري البحث عن المخلصين من أبناء هذا البلد الذين يهتمون فعلا بمصلحته لا مصالحهم، ويعملون ما في وسعهم لرفعته، وإعلاء شأنه، بعيدا عن الاضواء، واثارة الصخب والضوضاء، ونسلمهم زمام الأمور، ونتابع اداءهم، ونمد لهم يد العون، ونحميهم عند صوابهم، فلا يكونون عرضة لمحاربي النجاح، ومطاردي اصحاب الانجاز من ذوي المصالح والأهواء، كما علينا ان نقدم لهم الدعم الحقيقي والمساندة الفعلية، ونوفر لهم البيئة الصالحة للعمل، ثم نحاسبهم عند خطأهم وانحرافهم، ونحاول تصحيح مسارهم إذا أمكن ذلك، وإلا فلا سبيل لإكمال مسيرتنا إلا باستبدالهم بغيرهم.
ويجب ألا نستسهل الأمور، فنلجأ للحلول الترقيعية، والقوالب الجاهزة المعلبة، فنضيع أوقاتنا، وأموالنا، ونبدد جهودنا فيما لا طائل من ورائه، ثم نعود فنندم ونتحسر على ما ضاع وتلاشى.
زاوية أخيرة:
قال عمر بن عبدالعزيز ( رضي الله عنه ): لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه.