قال لي جاري في إحدى ديوانيات المنطقة: تصور يا دكتور.. تخرجت ابنتي في كلية العلوم الإدارية بتفوق، وانتظرت توظيفها من ديوان الخدمة المدنية قرابة السنتين، وجاء الفرج، وتم تعيينها مؤخرا «كاتبة» في مستوصف!! تصور.. بعد 5 سنوات دراسة تخصصية في علوم الإدارة، وباللغة الإنجليزية، تم توظيفها تكتب بطاقات دخول للمرضى في المستوصف!
وقال آخر: وأنا أيضا.. تخرج ابني في كلية العلوم الإدارية بتفوق، تخصص تسويق، وتم تعيينه موظفا في إدارة القرآن الكريم!! ولا أعلم ما علاقة التسويق بعمل مكتبي! لكن ابني لم ييأس، فتقدم على مدى 5 سنوات لأكثر من 20 وزارة وشركة حكومية ونفطية، وحتى القطاع الخاص، فلم يتم قبوله في أي منها!!
وتوالت الشكاوى من أسلوب تعيين الشباب الكويتي في مؤسسات الدولة، حتى قال أحدهم: أنا قيادي في احد قطاعات الدولة، وكلمت وزيري لتعيين ابنتي في قطاع آخر ضمن الوزارة، فاعتذر مباشرة دون السؤال عن التخصص والمكان، فكانت صدمة لي بعد خدمة القطاع أكثر من 25 سنة، إضافة لخمس سنوات أخرى في مكان سابق، وكان حريا به أن يقدر ذلك، فخرجت بصمت مطأطئ الرأس. وبعد أسبوعين اتصل الوزير بي لتعيين شاب مفصول لأسباب إدارية في السنة الأولى من تعيينه (تغيب، إهمال.. الخ)، لأن عليه ضغوطا من النائب الفلاني (وزير سابق)، فكانت الصدمة علي أشد!!
وجاءت شكوى من زوجة أحد الشباب، أنها عينت محاسبة في احدى الوزارات براتب 800 دينار، وغيرها عينت بنفس الوظيفة في مؤسسة حكومية أخرى براتب 1800 دينار، فهل يعقل هذا الفارق بين مؤسسات حكومية؟!
وقال أحدهم: تقدمت ابنتي «المتفوقة» للعمل في عدة قطاعات حكومية، وجميعها فيها شروط واختبارات ومقابلات شخصية، اجتازتها جميعا بنجاح، ومع ذلك لم تقبل فيها جميعا، ومعظم المقبولين أقل كفاءة منها في المعدل والاختبار والمقابلة بشهادة من قابلوها، وعند قراءة أسماء المقبولين تعرف السبب، إما لارتباط عائلي بمسؤول في القطاع، أو مع نائب دربه خضر! ويقول الأب: للأسف.. كل النواب الذين انتخبتهم دربهم حمر، ورغم علاقتي الطيبة مع نواب الدرب الخضر، إلا أنهم لم يساعدوني!!
لم أستطع تحمل كل تلك الشكاوى، فكان أذان العشاء منقذا لي للخروج من الديوانية للصلاة، وقد امتلأ رأسي بما يكفي لرفع الضغط، فهذا الحديث وتلك الآلام يبثها المواطن يوميا في الديوانيات وغيرها، ويتكرر ذات الألم مع كل دفعة تتخرج من أبنائنا الشباب، بمختلف الاختصاصات والمستويات العلمية، حتى أصيب الكثير منهم بالإحباط، فقبل بأي وظيفة لأنه (لأنها) ينفق على والديه وإخوانه، ويريد أن يتزوج، ويريد أن يستقر قبل التجنيد، فكيف تتصور عطاء المحبط؟! وما مستوى ولائه للمؤسسة التي يعمل بها؟!
وقبل فترة سألت شخصية ما عن تعيين البنت، فكانت الإجابة: طبيعي في المكان الفلاني، وقد عينت فورا!! (وهو مكان يتمناه الجميع).
هذا المقال ليس الأول الذي يطرح مشكلة التوظيف، وفوارق الرواتب، ولن يكون الأخير مادام الحال كما هو، وبالطبع لن أتوقع الحل الفوري، ولكنني آمل أن يعاد النظر مرة أخرى في أسلوب التعيين في القطاعات الحكومية، لأنها ملك الشعب وليست ملك المتنفذين والنواب وكبار المسؤولين. ومع ضرورة إعادة ترتيب سلم الرواتب بين الوظائف المتشابهة، على ألا يزيد الفارق عن 250 دينارا في أكثر الأحوال، لنضيق على الواسطة قدر المستطاع، ونحفظ حق المواطن وكرامته، بعدم قفز من هو أقل منه إلى أعلى منه.
لقد آن الأوان لتنظيم التعيين في المؤسسات الحكومية، وتوحيد سقف الرواتب، تحقيقا للحد الأدنى من العدالة الوظيفية والراتبية. فهل من مبادر؟!