كم هي ثقيلة على النفس تلك اللحظات التي تراودك فيها نوبات الحنين لأناس كانوا بالنسبة لك محور حياتك، فيتملكك الشوق حتى ينسيك ما كان منهم من إساءة، فتصدمك أبجديات الجفاء، تلك التي تخفي وراءها الكثير والكثير من الأسرار وعلامات الاستفهام.
فيذهب التفكير بك لسؤال مشروع، يا ترى هل هذا الاشتياق يجتاحهم أيضا بين الحين والآخر؟ أم أنها لعنة قد أصابتني دونهم؟
حينما تخترق صورتهم ذهنك على حين غفلة من عقلك، فلا تجد سوى ذكرى تسامرك، وحينما يشتد حنينك إليهم يستعين عقلك بالمنطق لدفع هواجسهم التي تطاردك، حيث لا سبيل للضعف فتواسي روحك تلك الوحدة التي قاسمتك طاولة الأمل المذبوح بسكين الفراق، وتخبرك بأن في الابتعاد أمانا لقلبك من الاكتواء بجنون الشوق أو خشية الفقد، وأنه ما عليك إلا الانتظار، فلربما يطاردك الملل ليسلمك إلى اليأس!
تطارحك نفسك قائلة: يا ليتهم علموا أن عشقك لهم قد خامر الروح والنفس حتى أفقدهما الاتزان فأخذتا تتأرجحان على سلم الأيام التي تمضي في هدوء مسكر، لياليها قاتمة شديدة السواد تسري برودتها في أعماق دواخلك، فتصاب بقشعريرة تهز الوجدان.
تأتيك لحظات تتمنى فيها أن تسقط ذاكرتك في جب النسيان كي تتخلص من مطاردتهم فكرك واستوطانهم قلبك، تصارعك نوبات الندم مختزلة في كلمة «ليتني..!»، فتتقارب جفونك مرغمة لتخرج دموع الندم تارة ودموع التمني تارة أخرى، وتظل عيناك غارقتين في دموعهما الحارة التي تلهبهما فتكتحلان باللون الأحمر.
ومن حين إلى آخر تصرخ دواخلك بآهات صامتة تخرج معها بعض من حمم الألم الذي يخنق روحك!
تجتاح نفسك حيرة لا قرار لها، لا تعلم ماذا تفعل ومع من تبوح وإلى أين تذهب بتلك الأحمال التي أثقلتك في تلك الأيام العجاف التي مرت عليك!
وإذ بعقلك الباطن في محاولة بائسة منه لمد يد العون إليك كي يخرجك مما أنت فيه، ينقب في ذاكرتك عن أناس آخرين كان لهم أثر طيب في يوم بات من الماضي الدفين!، فتفارقك روحك باحثة عنهم فربما تجد في استعادتهم طوق نجاة من لوعة الفراق ومرارة الخذلان ومطاردة أشباح مشوهة كانت تختبئ خلف أقنعة الصدق والطهارة فوضعتها بين عينيك رغما عنك حتى أوقعتك في فخاخها وانهالت عليك فقتلت ما قتلت وشوهت ما شوهت وهدمت ما هدمت من قلاع مشيدة وبساتين من زهور نادرة زرعت في دواخل طفل بريء فبنى منها قلاعا من روائع الأمنيات التي تحولت إلى رماد ذرته ريح اليأس واللاعودة.
وفي محاولة بائسة لإنقاذ ما تبقى منك، تضع قدميك اللتين ترتجفان خوفا من المضي بطريق ضبابي، عن يمينك غابة مخيفة مقفرة، وعن يسارك بحر هائج يدفع أمواجه الثائرة بغضب مخيف، تريد أن تصل إليك لتبتلعك في قعرها العميق.
ولطالما تتدخل عناية رب لطيف يرى دواخلنا النقية، فيرسل إلينا جنود رحمته محمولة فوق ملائكة من نور، تتلاشى في وجودها الأشباح والمخاوف، يخترق نورها صدورنا المظلمة فتدب فينا الحياة من جديد.
فكم غلب اليسر من عسرين، وكم سالت أودية الصبر بالثمار؟!
[email protected]