كـانــت الرسوم والأطلال غرة قصائد الشـــعراء في العصر الجاهلي، وكذلك في العصر الإسلامي الأول، والواقع أنها ديباجة رائعة واستهلال أروع يرفع من قيمة القصيدة ويجعلها ذات وقع جميل على من يتلقاها.
ولا شـــك أن الوقوف على الرسوم والأطــــلال يثير الشجن، ويذكرك بأنــــاس كانوا أعزة عليك، فارقوك ولم يبق إلا ذكراهم، تراودك بين الـــفينة والأخرى فربما بعثت في نفسك الأمل في غد أفضل، أما الرسوم فهي بقايا تكون على الأرض وتظهر لاصقة بها، مثل الرماد والدمن، والمتناثر من الفرش، والرسوم جمع ومفردها رسم، أما الــطلل وجمعها أطلال فتلك بقايا ما يظهر فوق الأرض من الأوتاد والأثافي وقطع الخيام، وغير ذلك من آثار الديار التي كانت مأهولة ثم خلت من أهلها، وصارت بلاقع، وفــــي ذلك يقول الشاعر الجاهلي الحكيم ذو الاصـــبع العدواني حرثان بـــن محرث، وهو من المعمرين:
هل تعرف الرسم والأطلال والدمنا
زدن الفؤاد على ما عنده حزنا
دار لصفراء إذ كانت تحل به
وإذ ترى الوصل فيما بيننا حسنا
ونحـــن وإن تقدمت بنا السن، وبـــدأنا العد التنازلي لأعمارنا، فمازلنا نتذكر منازلنا القديمة «وسكيكنا وفرجاننا وبرايحنا وعوايرنا» التي لعبنا فيها وقضينا بها أجمل أيامنا، وشهدت مرتع صبانا بين مدارسنا وملاعبنا ودكاكيننا ومزارعنا، كل ذلك عالق في الذاكرة لا يزول ولا يتزحزح، مثل المداد الذي لا يمحى ولا يمسح، فنقف على تلك الآثار ونتنفس الصعداء ولسان حالنا يردد قول طرفة بن العبد:
لخولة أطلال ببرقة ثمهد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسًى وتجلّد
لقد كنا نشعر بالأمن والراحة والاطمئنان الذي افتقدناه في زماننا هذا، ذكريات جميلة تعاودنا كلما شغلتنا أمور الحياة عنها، ولقد دعاني إلى كتابة هذا العمود قصيدة حزينة لشمس الدين الكوفي محمد بن أحمد الهاشمي عاودت قراءتها عشرات المرات لأنها تثير في الشجن وتذكرني بأهل وأحبة لي رحلوا عن هذه الدنيا الفانية، تقول بعض أبياتها وهي كثيرة:
عندي لأجل فراقكم آلام
فإلامَ أعذل فيكم وآلام
إن كنت مثلي للأحبة فاقدا
أو في فؤادك لوعة وغرام
قف في ديار الظاعنين ونادها
يا دار ما فعلت بك الأيام