جاء الخطاب الافتتاحي للرئيس الأميركي دونالد ترامب قاسيا وجارحا، بل ومهينا للطبقة السياسية في أميركا بجناحيها الجمهوري والديموقراطي.
ووجه ترامب كلامه مباشرة أمام رموز هذه الطبقة بمن فيهم أسلافه من الرؤساء، وبلغ حد التنديد بممارسات المؤسسة السياسيـة التقليديـة أو الـ «ايستابليشمنت» متهما إياها بالإمعان طيلة عقود بالثرثرة وبخدمة مصالح أفرادها وحظوتهم على حساب الشعب الأميركي، حتى اختصرت الشعب فيها وأقصته وهشّمت أحلامه وبدّدت مكتسباته وبذّرتها في أرجاء العالم حيث يرى ترامب ان دولا كثيرة اغتنت على حساب بلاده!
وحرص ترامب مسبقا على التأكيد أنه خطّ خطابه بنفسه بما لذلك من دلالات، وتعمد أن يطل وسط المراسم الابتهالية للافتتاح بصورة «المخلّص»، وفق استراتيجية واضحة تدل عليها عبارات انتقاها بعناية وتحمل طابعا تخويفيا قلما سمعناه من رئيس أميركي سابقا بخصوص تراجع قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية مثل «الاضمحلال» و«النضوب» في إشارته إلى البنية التحتية الحالية للبلاد وجيشها الذي تتمركز قواعده العسكرية حول العالم.
ورسم صورة قاتمة لأميركا تمهيدا لشروعه فيما يتطلع إليه من إعادة للوهج والبريق الآفلين، وبدا جليا أنه لن يهادن من اللحظة الأولى في رسالة واضحة للكونغرس مفادها: إما أن تكونوا معي وتعملوا أو سأفضحكم وأبين للشعب «ثرثرتكم وتلكؤكم عن العمل».. وبات الجميع يدرك بناء على التجربة أنه قادر على ذلك بتغريدة صباحية ليس ما يمنع أن يستهلها بـ «يا...»!
إلى هنا تبدو الأمور واضحة نوعا ما وشأنا داخليا أميركيا، لكن ثمة ما هو أخطر في الخطاب، وهو رسالته التي أتت بذات القسوة للعالم أجمع: اسمعوا.. أميركا ستكون أولا!
منذ أن انهار الستار الحديدي، والعالم بأسره اعتاد أو دفع إلى الارتماء في أحضان أميركا كأم راعية لشؤونه تلعب دور الأم والأب معا، فتكبد ثمن تهورها وإهمالها وسوء تقديرها في محطات كثيرة، كما أفاد في حالات أخرى من جهودها في تعزيز العولمة والتجارة الحرة المدفوعة بالتقدم التكنولوجي مقابل الوصاية والتحكم بقرار الهيئات الدولية وخاصة المالية وتوجهات الاقتصاد العالمي. يقول ترامب الآن: أميركا أولا، جميل لكن ما السبيل إلى ذلك؟ وما الذي ستقدمه أميركا للاستمرار في قيادة العالم إن كانت تصادر الأولوية لمصلحتها؟ هل تريد الإثراء على حساب العالم وإفقاره لتغنى؟ أم انها ستنغلق وتتخلى عن القيادة؟!
«ماما أميركا» تضعنا جميعا في حيرة مجددا، ولا يعرف أحد إن كان يجب أن نرضيها أو ترضينا في وقت لم يتماثل فيه العالم بعد من وعكته الاقتصادية التي أصابته بعدوى انتقلت إليه منها، ومن نزيف إنساني في الكثير من أرجائه جراء ضعف رعايتها!.. ترامب يشهر عصاه واعدا بأنها سحرية وتزخر بالأفضل.. نأمل أن نكون أمام سحر لا شعوذة!