جمعت أوراقي وتوجهت إلى قسم الإخراج، كنت سعيدا ذلك المساء على غير العادة، ربما لأنني لم أتابع الأخبار يومها.. بحثت عن «صديقي» فلم أجده، سألت الزميل زين عبدو: أين الحاج طلعت؟ رد بصوت حزين، عطاك عمره، اطلب له الرحمة!
يا لهذه الكلمة، كم هي قاسية ويا لوقعها على مسامعنا كم هو مؤلم، قلبت كياني وغيرت حالي في لحظتين، اعتراني الانكسار وأصبح وجهي شاحبا، لملمت أوراقي وأجزائي وخرجت، توارت ابتسامات الفرح خلف أستار الحزن، رغم أنني لم أظهر ذلك، آه.. كم نحن بارعون في إخفاء مشاعرنا والتظاهر بالصلابة، يا لها من بلاهة.
رغم طول المدة التي كنت ألتقي فيها بالحاج طلعت، رحمه الله، في الجريدة، إلا أننا لم نتحدث كثيرا، فالكل منهمك بأوراقه المبعثرة في كل اتجاه، العمل كثير والوقت قليل. قبل أشهر قليلة فقط تكونت بينه وبيني صداقة، جلست معه ليصمم لي إحدى الصفحات، اقترحت عليه أن تكون الصفحة بشكل معين، فقال «وريني الصور»، وأخذ يتفحصها بسرعة، ثم رد «ما ينفعش»، أنا حعملها بالشكل ده، وراح يضرب على الآلة الحاسبة ويحسب الكلمات والأسطر ويرسم ويخطط على «الماكيت». قلت له بس يا حاج يا ليت تخليها بالشكل ده، وأخذت ألقي عليه اقتراحاتي السخيفة والمزعجة، فصرخ بصوت متقطع ومتعب من أثر السعال: «يابني ما ينفعش انت عندك صور تمانية عمود والكلام كتير، متتعبنيش أنا راجل عيان وبشتغل بنص رئة»، قلت خلاص آسف يا حاج وألف لا باس عليك. بعد أيام عدت إليه وقلت له ألف ألف شكر يا حاج، فاكر الموضوع اللي عملناه، فزت فيه بجائزة الصحافة. ابتسم وقال «تعال اقعد، هو الموضوع كان عن إيه بالظبط؟» وأخذت أحدثه بكل سعادة، وأستمع إليه بكل فرح، اكتشفنا في ذلك المساء أن بيننا اهتمامات مشتركة، واكتشفت أنه «مخترع» وقارئ جيد للأدب، يعشق التكنولوجيا والعلوم، كنت أستمتع كثيرا وأنا أستمع إليه حين يحكي.. «كان عندنا في مصر واحد اخترع جهاز، بتاع صغير كده تحط فيه موس الحلاقة القديمة يرجع جديد خالص، حاربوه ومعرفش يبيعه، ده لو كان في أميركا كان زمانه دولقتي مليونير.. بس خد بالك، همه أصلا مش حيسيبوه يعمله، عارف ليه.. الشركات الكبيرة مش حتخليه لأنه حيخسرهم.»، رحمك الله يا حاج طلعت وأسكنك الجنة، أفتقد وجودك، رغم أنني مازلت أراك جالسا في مكتبك كلما نظرت إلى قسم الإخراج، أراك متأملا صابرا.. في انتظار ما لا يأتي.
[email protected]