في مثل هذه الأيام العجاف، التي أصبح فيها قتل البشر مثل قتل الذباب، أجد نفسي منكبا على أعمال الأديب الألماني الرائع هاينريش بول التي أجد فيها شيئا من المواساة والتربيت. هاينريش بول الحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1972 هو أحد أدباء ما بعد الحرب العالمية الثانية، كرس معظم أعماله لمناقشة عبثية الحروب وانكسار الشعوب المهزومة، وتميز بوصف الحالة النفسية للجنود العائدين من ميادين المعارك، بما خلفته فيهم تلك التجارب القاسية من خوف ويأس وضعف، كما اهتم بشكل كبير بوصف مشاعر العجز وقلة الحيلة التي اعترت الإنسان البسيط خلال تلك الفترة المؤلمة، حيث تحول ملايين البشر إلى مجرد أدوات وكائنات ضعيفة تنتظر الموت وتعيشه كل لحظة، بحسب خطط القائد ونزواته.
لم يعد لهاينريش بول حضور كبير في ألمانيا اليوم، فهو بالنسبة لهم مجرد «أديب مرحلة»، هي مرحلة الحروب العالمية وما خلفته من مآسي، لكنه ربما يكون أهم أدباء هذا «الزمن الأغبر» الذي نعيشه الآن، ففي أعماله الكبيرة مثل رواية «عند الجسر» و«موت إلزة باسكولايت» و«أيها المتجول» وغيرها وصف رائع يعبر ـ من جديد ـ عما نشعر به نحن أبناء عصر «مكافحة الإرهاب».
*****
متابعة ما يجري في عالمنا العربي أمر مرهق ومرعب، يستهلك عمر الإنسان وصحته، ومتابعة ما يجري في الكويت يدعو للبكاء والحسرة، توقف فينا الزمن، وماتت فينا الفرحة والأحلام واعترانا اليأس والإحباط. خمسة أعوام ونحن نجتر الحديث ذاته، ونتابع «الموت السياسي» ذاته، ونقرأ الأخبار ذاتها بتكرار ممل، حالنا كحال العجائز ومبتوري الأرجل الذين كانوا ينتظرون ساعة الفرج في أقبية برلين وملاجئ فرايبورغ.
يا للحسرة ويا للغثيان، هل نبكي؟ «وما فائدة البكاء في زمن النحيب» كما يقول الشاعر الألماني هولدرلين!
*****
كتب الفيلسوف والأديب الفرنسي الوجودي ألبير كامو رواية بعنوان «الطاعون» يصف فيها ما عاناه أهل مدينة وهران في الجزائر بسبب الطاعون في الستينيات يقول فيها: «لقد كانوا ينكرون في هدوء، أنه قد مر بنا وقت عرفنا فيه ذلك العالم المجنون الذي كان مقتل الرجل فيه من الأمور التي تحدث كل يوم كمقتل الذباب، وأننا قد عرفنا تلك الوحشية المحددة المعالم، ذلك الهذيان المدبر، ذلك السجن الذي يجلب معه نوعا من الحرية البشعة بالنسبة لكل ما لم يكن حاضرا، رائحة الموت التي كانت تذهل جميع من تلتهم. وكنا كشعب يذهب منه كل يوم جزء ـ في شكل كومة ـ إلى الأتون، فما يلبث أن يتحول إلى دخان دسم بينما ينتظر جزءا آخر دوره مكبلا بأصفاد العجز والخوف».
*****
وكتب السياب في رائعته «رسالة من مقبرة»:
النور من طين هنا أو زجاج
قفل على باب سور!
النور في قبري دجى دون نور
النور في شباك داري زجاج
كم حدقت بي خلفه من عيون
سوداء كالعار
يجرحن بالأهداب أسراري
فاليوم داري لم تعد داري
والنور في شباك داري ظنون
تمتص أغواري!
[email protected]