قبل أيام حددت رئيسة وزراء بريطانيا السيدة تيريزا ماي ملامح خطة حكومتها لخروج بلادها من الاتحاد الأوروبي- تنفيذا لرغبة 51% من الشعب- أهمها التأكيد على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومن السوق الأوروبية المشتركة، ومن الاتحاد الجمركي أيضا، فيما دعت إلى الإبقاء على اتفاقية الإعفاء الجمركي بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي. بعدها بيوم واحد علقت المستشارة الألمانية السيدة انجيلا ميركل بالقول: لن نسمح لبريطانيا بسياسة «انتقاء الامتيازات» في مسألة خروجها من الاتحاد.
***
البريطانيون يتهمون بروكسيل (المركز الاداري للاتحاد الأوروبي) بأنه يسعى لإذلال بريطانيا ومعاقبتها بقسوة والاضرار بمصالحها بهدف تقديم نموذج سيئ لأي دولة تفكر في الخروج من الاتحاد. بينما ينظر الأوروبيون في بروكسيل لبريطانيا على أنها كانت منذ البداية مجرد «نصف عضو» يضع نصف رجل في الاتحاد، وقد حظيت باستثناءات كثيرة وتنازلات أكثر بهدف المحافظة على تماسك الاتحاد، فهي لم تدخل في منطقة اليورو، ولم تدخل في اتفاقية شنغن، ولم تدخل في اتفاقية توزيع حصص اللاجئين، وكانت دائما تطالب بمزيد من الاستثناءات.. لكن بما أنها ستخرج، فما المبرر لاستمرار حصولها على امتيازات جديدة؟!
***
خروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة سيكون له تأثيرات اقتصادية سلبية على الطرفين بلا شك، فهناك آلاف الشركات الأوروبية العاملة في بريطانيا، يقابلها آلاف الشركات البريطانية منتشرة في أوروبا، وهناك آلاف العمال والموظفين والأسر والمصالح المشتركة. حجم التبادل التجاري بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي الذي يتجاوز 450 مليار يورو سنويا يقدم لنا تصورا واضحا لحجم الضرر بالتأكيد. صادرات بريطانيا لأوروبا تقدر بنحو 220 مليار يورو سنويا، وهو ما يعادل 47% من صادرات بريطانيا مجتمعة، تقابلها صادرات أوروبا لبريطانيا بنحو 190 مليار يورو سنويا، وهو ما يعادل 53% من واردات بريطانيا، هذا يفسر بالتأكيد تخوف البريطانيين من إلغاء اتفاقية الإعفاء الجمركي، ولذلك أعلنت تيريزا ماي أنها ستضاعف قيمة الضرائب على الصادرات الأوروبية إذا فرضت بروكسيل ضرائب على الصادرات البريطانية لأوروبا.
البريطانيون دهاة سياسة، وليس من السهل وضعهم في زاوية حرجة، وهم يملكون أوراق قوة كثيرة لا يمكن تجاهلها، أهمها شبكة علاقاتهم الاستراتيجية مع دول الكومونويلث (53 دولة كانت أغلبها جزءا من بريطانيا العظمى) وشريكهم الأقوى الولايات المتحدة (انجلو ساكسون)، وأيضا «أصدقاؤهم التاريخيون» في الخليج العربي «وهنا باب مصالح استراتيجية لنا في دول مجلس التعاون الخليجي يمكن استثماره بشكل جيد»، وهذا ما أكدته تيريزا ماي وهي تتحدث عن وحدة مكونات المملكة المتحدة الأربعة - انجلترا، اسكتلندا، ويلز وشمال ايرلندا - وخلفها شعار مرفوع «بريطانيا العالمية» A Global Britain، ولا ننسى مبلغ 47 مليار دولار الذي ستوفره بريطانيا سنويا، وهو قيمة ما تدفعه من اشتراكاتها كعضو في الاتحاد الأوروبي.. ثمة خسائر كبيرة للبريطانيين في المقابل لا شك، لكن ما أوراق قوة بروكسيل في ظل علاقاتهم المتوترة مع روسيا، وأميركا ترامب؟!
***
خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي يمثل تحديا حقيقيا ليس للقارة الأوروبية فحسب، بل للعالم أجمع. بعد الحرب العالمية الثانية اعترفت ألمانيا بأخطائها وقدمت اعتذارها لجميع الدول المتضررة من ديكتاتورها ودفعت تعويضات كبيرة لهذه الدول، قابلها تسامح أوروبي وانفتاح وشعار «لا حرب بعد اليوم، والرفاهية للجميع». يمثل هذا بالتأكيد أساسا والتزاما أخلاقيا للعلاقات الاستراتيجية بين هذه الدول التي تتعامل فيما بينها وفقا لمنطق المصالح المشتركة لا بمنطق الايديولوجيات المتعجرفة التي تعد السبب الأول للدمار والتخلف في منطقتنا العربية.
[email protected]